السبت، 31 أكتوبر 2009

صفقة رابحة!



(عاطف) تعس..

نعم تعس.. رغم كل النجاح الذي يحيط به في حياته العملية والشخصية تعس..

تعس وليس طبيعياً أيضاً، يؤمن بذلك، بل ودائماً كان يتمنى أن يكون مختلفاً عن الآخرين، لكن أن يرى أشخاصاً لا يراهم أحدٌ غيره لاختلاف مبالغ فيه...

يستيقظ في الصباح – ككل يوم – يدخل الحمام فيحلق ذقنه ويغسل أسنانه ثم يقف أمام خزانة ثيابه حائراً أيرتدي البذلة السوداء، أم البنية، أم الزرقاء، أم....؟! إن كثرة ملابسه تجعله حائراً متخبطاً في اختياره، كل يوم يقف نفس الوقفة في نفس المكان يداعب شعر رأسه قليلاً، ثم يفتح أجندته الخاصة ويقرأ ما فيها، وعلى هذا الأساس يقرر...

اليوم لديه موعد مهم مع السيد المحافظ، إذا سيرتدي البذلة السوداء الرسمية، ولا مانع من نظارة الشمس الذهبية أيضاً فهى تمنحه رونقاً خاصاً يؤمن أنه جديرٌ به...

ينزل من فيلته الفاخرة، يركب سيارته الفخمة، يشير إلى السائق بالانطلاق، ولا ينسى قبل أن يخرج من حديقة الفيلا أن يلقي نظرة على هؤلاء الأطفال الذين يمرحون فيها، ثم يسأل السائق نفس السؤال الذي يسأله إياه كل يوم:

- أترى هؤلاء الأطفال؟!

السائق ينظر له في مرآة السيارة ويقول نفس الإجابة التي يقولها كل يوم:

- أقسم لك يا سيدي أن الحديقة خالية...

ينظر له (عاطف) طويلاً ككل يوم ثم يقول في هدوء عصبي:

- لا عليك...

لا يعلق السائق كعادته ويحمد الله كثيراً على نعمة الفقر وأنه ليس غنياً فها هو يرى ما فعله الغنى بهذا الرجل.. لقد جُن تماماً...

يصلا إلى شركة فخمة للمقاولات ويترجل (عاطف) من سيارته في عصبية، ثم يشير إلى السائق إشارة مبهمة يفهمها الأخير على أنها: انتظرني هنا...

"أصبح شديد العصبية! "... هكذا يصف الموظفون في الشركة (عاطف)، منهم من يعتقد أنه نظراً لمشاغله الكثيرة أصابته العصبية، ومنهم من يظن أن هذا يعود لكبر سنه، ومنهم من يؤمن أنها طبيعته الشخصية التي كان يخفيها، ومنهم من يحسب أنه لابد أن يكون المدير عصبياً حتى يكون مديراً ناجحاً!...

لا يدري (عاطف) بما يدور في رؤوسهم – وإن كان يتوقعه – وهو يتجه نحو المصعد فيضغط على زر الطابق الأخير...

وأثناء صعوده يفكر في عصبيته الشديدة..

هو لم يكن عصبياً منذ أربعة أشهر بالتحديد، كانت حياته مستقرة تماماً وزوجته في شهرها التاسع وتوشك على الإنجاب، ويتوقع صفقة رابحة ستدر عليه الملايين، وينتظر أخاه العائد من أوروبا بعدما أنهى منحته الدراسية، ذلك الأخ الذي طالما اعتبره ابنه...

فقط أربعة شهور غيَّروا كل حياته...

يصل به المصعد إلى الطابق المنشود، فيخرج منه متثاقلاً مهموماً، يدخل إلى مكتبه فتذكره السكرتيرة بموعده مع المحافظ، يومئ لها ليخبرها أنه متذكر لكنها لا تلاحظه وتبدأ في الحديث عن مواعيده وعن المشكلات التي تحتاج إلى إطلاعه أو إمضاءه...

ينظر لها طويلاً في خواء، ثم يطلب منها الانصراف في هدوء، هى أيضاً تلاحظ اختلافه وتغيره، إنه لم يعد ذلك المهندس النشيط صاحب شركة المقاولات المشهورة، فجأة أصبح مختلفاً كأنما زاد عمره ألف عام!...

تقتل أفكارها وتدفنها في مقابر عقلها قبل أن تخرج من المكتب في هدوء وتتركه لنفسه يحادثها...

ينتظر قليلاً بعد خروجها، ثم يقوم من فوق كرسيه ويشبك كفيه خلف ظهره ويقف قليلاً أمام اللافتة التي كُتب عليها بخط أنيق: مهندس/ عاطف سليمان رئيس مجلس الإدارة...

يتذكر كيف أصبح مديراً وهو لم يكن سوى مهندساً بسيطاً، ويتذكر كيف كون ثروته في خبطة واحدة، هو لم يعرف الحظ يوماً، لكنه يؤمن أن كل شيء بقدر حتى القتل!...

يتحرك نحو نافذة المكتب الواسعة ويتأمل السماء قليلاً من خلف الزجاج الشفاف، ينظر نحو البيوت الكثيرة المليئة بالحياة، ثم يلمح أشخاصاً وراءه فيلتفت إليهم في هدوء...

لقد اعتاد رؤيتهم، منذ أربعة شهور وهو يراهم...

أربع أسر كاملة... الأطفال يمرحون، والآباء يمزحون، والأمهات يثرثرن...

أربع أسر عادية جداً كأي أربع أسر، لا يصرخون مثلاً، أو يقلبون الموائد، أو يظهرون للأطفال فقط كما يحدث في الأفلام...

يتحرك وسطهم في هدوء، هل هذا هناك ابنه؟! نعم هو ابنه والأطفال يحاصرونه ويلقون فوقه الحصى، وهذه زوجته تحاصرها السيدات ويشدوا شعرها ويمزقوا ثيابها، وهذا أخيه يُضرب بالأقدام والأيدي والأحذية من الرجال الذين فقدوا مرحهم وأصبحوا الغضب متجسداً...

يمسك (عاطف) رأسه متألماً لما يرى، ويشعر بصداع شديد، ثم ينتفض حين يسمع صوت الهاتف الداخلي يرن....

تختفي كل تلك الخيالات التي كان يراها من أمام عينيه، ثم يذهب إلى الهاتف فيرفع سماعته ليسمع صوت السكرتيرة تخبره بأنه حان وقت الذهاب إلى ميعاد المحافظ....

***
- إن كل شيء ضدك.. صدقني لقد فعلت كل ما بوسعي...
- إذاً لا مفر؟
- لا أعتقد أن هناك واحداً، أنت تعلم أني متورط معك في الأمر، وأنهم يطاردوني كما يطاردوك.. لكن ما بيدي حيلة أنا الأخر...

يستمع إلى كلمات المحافظ التي قالها همساً، ويفكر فيها قليلاً...

نعم.. هو الوحيد الذي يراهم مثله!..

يُخرجه من هذيانه صوت المحافظ وهو يقول:

- حاول أن تتجاهل وجودهم، وأن تجد محامياً بارعاً...

ينظر له في صمت بعد أن أنهى كلماته، ثم يراقبه وهو يقوم ليتجه نحو المنصة الرئيسية ويبدأ في ترتيل خطبته الحماسية المليئة بحب الوطن...

يسمع أصوات خلفه فيلتفت ليرى الأسر الأربع تقف تنظر له وعيونهم تلمع بغضب لا مثيل له، يتأملهم قليلاً ثم يعود ببصره إلى المنصة ليستمع إلى كلام المحافظ الأجوف، يقرر أن يغادر فلا يجد أحداً يمنعه، يتجه إلى سيارته ويشير إلى السائق بالتوجه إلى المنزل...

تنطلق به السيارة وهو يفكر في ما سمعه من المحافظ، إنه الآن في موضع شك كبير، لقد انكشفت الحقائق كلها، ولم يعد أمامه مفر...

يتذكر عندما كان مهندساً بسيطاً وجاءه ذلك المحافظ – قبل أن يكون محافظاً – واتفق معه على صفقة وجدها رابحة للغاية...

إنها قطعة أرض خالية، وهى ملكٌ للدولة، يفكر ذلك الرجل في طريقة تدر عليه مالاً دون تعب فلا يجد أفضل من تلك الطريقة: سيقدم طلب بناء عمارة فوق تلك الأرض لتسكين ضحايا الزلازل...

بعد وقت طويل جاءته الموافقة وكان عليه اختيار المهندس و.. و.. إلخ...

ووقع اختياره على (عاطف)...

تصل السيارة إلى الفيلا، فتفتح أمامها الأبواب قبل أن تسير قليلاً في الطريق المخصص لها ثم تتوقف تماماً..

يترجل (عاطف) منها ويسير قليلاً فوق حشائش الحديقة وهو ينظر نحوها، يركل حصوة هنا وهناك قبل أن يرفع رأسه ليتأمل الأطفال الذين يمرحون، والآباء الذين يمزحون، والأمهات اللاتي يثرثرن....

فجأة يلتفتون نحوه وتلمع عيونهم بغضب شديد فينظر مرة أخرى إلى الحشائش ويسير متجهاً إلى الفيلا، يدخلها وهو يشعر بالوحدة تجثم على صدره...

ينظر إلى صورته مع زوجته ويتذكر...

بعد أن اختاره ذلك الرجل طلب منه الغش في الأسمنت وغيره من مكونات البناء، وأقسم له أنه لا أحد سيلاحظ ذلك النقص...

أدار الأمر في رأسه، وبعد تفكير عميق وافق، وبدأ البناء...

ارتفعت العمارة أربعة أدوار كاملة، وبعد أن كانت للمتضررين من الزلازل، أصبحت لمن يملك واسطة كبيرة، وسكن فيها بالفعل أربع أسر، لكنه لم يهتم كثيراً بمن سكن ومن سيسكن، هو فقط اهتم بالنقود...

كان يعلم هو والمحافظ أن العمارة لن تستمر طويلاً، لكن عندما ستقع سيكون بشراً ماتوا، وبشراً ولدوا، ولن يتذكر أحد شيء عنهم بعدها...

ولأن المال يصنع المعجزات، ولأن (عاطف) قرر اتخاذ طريق الفساد، فقد أصبح مديراً للشركة بسرعة رهيبة ودون مجهود يُذكر، كما أن علاقته بذلك الرجل – الذي أصبح محافظاً بنفس الطريقة – كانت تخدمه كثيراً...

وبقى الأمر سراً بينهما لم يشركوا فيه ثالث...

ثم خر البيت ساقطاً منذ أربعة شهور بالضبط.. ومعه بدأت الخيالات المريضة تزوره..

لم يدرك لمَ لا يراهم أحدٌ غيره، لكنه أدرك أنهم بالتأكيد سبب ما حدث له من كوارث..

يتذكر...

امرأته في المستشفى بين يدي الطبيب، صرخاتها تصم الآذان وتوقظ الموتى من سباتهم، أناتها تحطم القلوب، والأسر الأربع تشاهد من بعيد...

كان يرتجف، وعرقه البارد أخذ يتصبب غريزاً على رأسه، وهلعه من هؤلاء الذين يراهم، وخوفه على زوجته.. شلّا تفكيره، ثمً خرج له الطبيب بوجه مكفهر ليخبره بالصاعقة... لقد فشلت الجراحة ومات الاثنين.. الأم والجنين....

يتذكر...

وقوفه في المطار ينتظر أخاه، حين أتاه الخبر بغرق الطائرة في البحر...

يتذكر...

الرسالة التي وصلته لتخبره أن الشركة فقدت أهم صفقة في تاريخها...

يتذكر ما حدث منذ أربعة شهور...

الآن هو وحيد، وكل ما بناه على وشك أن يسقط، كما سقط ذلك البيت..

قريباً ستنكشف الحقائق كلها، ويدرك الناس بالمجرمَين، وساعتها سيشمت فيهما الكثيرون ولن يكون عقابهما سهلاً أبداً...

الأسر الأربع تشاهده وهو يفكر ومازالت غاضبة...

يتجاهل وجودهم ويحاول أن يفكر في حلٍ ما لتلك المشكلة، لكنه يفشل، فيقرر الاتصال بالمحافظ ليحادثه قليلاً فيأتيه خبر موته.. يحاول أن يتساءل عن كيفية موته لكن المفاجأة ألجمت لسانه فأفقدته القدرة على النطق...

يغلق الهاتف دون كلمةٍ أخرى، ثم يتجه نحو خزانته في هدوء.. يفتحها.. يخرج مسدسه المرخص.. يتأكد من حشوه.. يرفعه نحو رأسه...

ينظر نحو الأسر الأربعة فيراهم سعداء ينظرون له بابتسامةٍ واسعةٍ مسرورين لما سيفعله كأنما يشاهدون فيلماً هزليلاً...

يظل يتأملهم وسبابته تقترب من الزناد، يقتربون منه أكثر....

وحين دوى صوت الرصاصة...

اختفوا!!



كُتبت المسكينة في 4 مارس 2009
أنا :)