الخميس، 28 مايو 2009

ابتسامة إيزاك!!


الجمعة 9 يونيو 1967


وقفت ممتقع الوجه أراقب العلم الأزرق يرتفع على أرض سيناء، كبلت دموعي داخل عيني ومنعتها من النزول، وأنا أشاهد علم مصر يحتضن رمال سيناء، حاولت أن أتجه نحوه لأرفعه من فوق الأرض وأضعه فوق رأسي لكني كنت مكبلاً بالقيود، والعجز كان سيدي، انتبه إلىَّ ذلك الوغد الإسرائيلي فصفع وجهي دون كلمات، فنظرت أمامي في ذل، كنت أثق أنهم لن يتخلوا عنا في الوطن غير مدرك أنني قد شهدت حرب الأيام الستة كما قيل بعدها..


كان جسدي يشتعل ناراً، ليس بسبب الشمس التي تلفح وجهي، ولكنها مرارة الأسر...


لمحت العلم الأزرق يرفرف في السماء بطرف عيني وهم يقتادونني مع زملائي إلى سيارة ما ستحملنا إلى مكان ما لم أكن أعرفه وقتها، نظرت إلى علم مصر وأنا أركب سيارة الترحيل، وهمست له:


- سأعود....


وطار العلم في الهواء بعيداً....


***


الثلاثاء 18 مارس 1969


الجندي(إيزاك صموائيل) وقف مشعلاً سيجارته، أبداً لن أنسى وجهه، وهو يأخذ نفساً من السيجارة المشتعلة ثم يقربها من عورتي ويطفئها فيها، تصبب العرق على وجهي لكني كتمت صرخاتي كي لا أشبع متعته وساديته الحقيرة، نظر لي في غلٍ ثم أشعل السيجارة بقداحته من جديد، أخذ منها شهيقاً عميقاً ثم أطفأها في وجهي، أسقطت وجهي على رقبتي ألهث مدعياً فقدان الوعي، فأشعل هو السيجارة من جديد، واتجه إلى الراديو الموجود في يمين الحجرة وأشعله، كان موضوعاً على إذاعة الشرق الأوسط، سمعت المذيع يقول في حماس:


- إنه الاستنزاف يا مصريون.. إنه حق أبنائكم الأسرى.. إنه حق شهدائكم.. الطائرات المصرية المقاتلة تفتك بالعدو الصهيونـ...


قلب (إيزاك) المحطة في حنق، كأنما كان يفهم العربية، ثم وصل إلى محطة تتحدث بالعبرية ولمحت عيناه تتسعان ارتياعاً، قبل أن يحضر جهازاً ما، ويوصل طرفه بالكهرباء ويوصل أحد الأسلاك برأسي والأخر بعورتي، وأنا مازلت أدعي فقدان الوعي..


صفع وجهي مرتين ثم أحضر دلواً من الماء سكبه فوق وجهي، فاضطررت أن أرفع رأسي، ليطالعني وجهه الدميم يقول بعربية متلعثمة:


- هذا.. جزاء.. عدوان.. طيارين...


بدأت أحلل كلماته لكنه أشعل الجهاز الحقير فأشعل في جسدي ناراً ثائرة، وشعرت بصدري ينقبض وظهري يتقوس كأنما هو الموت...


أو أشد....


***


الخميس 5 أغسطس 1970


رأيت ضوء الشمس أخيراً بعد سجن طال، كنت واثنين من زملائي فقط من بقوا من طليعتنا والباقين قد قتلوا، إما في حرب الستة أيام أو من شدة التعذيب...


أخيراً أعادونا إلى وطننا الحبيب، ما إن عبرنا الحدود حتى تلقتنا القوات المصرية، لم ننتظر منهم تحيةً ولا نيشاناً بل قلنا جميعاً في صوت رجل واحد:


- متى القتال؟!


***


أحد أيام 1972


وقفت ككل يوم منذ عدت إلى مصر، أتأمل في المرآة تلك الوحمة في وجهي، أتذكر وجه (إيزاك) الدميم وهو يطفئ سيجارته في وجهي، ثم أغمض عيناي مقسماً ألا أنسى...


***


6 أكتوبر 1973


وقفت أترقب المهندسين وهم يفتحون الثغرة تلو الثغرة في ذلك الجبل الترابي اللعين، وأصابني انفعال شديد وأنا أسمع صرخات زملائي اللذين عبروا...


شممت رائحة الموت تفوح، لكن رائحة التضحية كانت أقوى منها بكثير..


أخيراً عبرت الخط واندفعت مع المندفعين نصرخ مكبرين، نطلق الرصاص هنا وهناك، نصرع هذا وذاك، نحرر الأرض، نرفع العلم، ننتقم....


في عز المعمعة وجدت (إيزاك) يضرب جندياً إسرائيليا يحاول أن يسبقه إلى ذلك المخبأ الذي لا يتسع إلا لشخص واحد...


تابعته بعيني حتى صرع زميله واختبأ داخل الحصن كالفأر، ثم زحفت على التراب مستتراً حتى وصلت إليه، بدأت أستعد للانقضاض عليه حين شعرت بأحد ورائي وبالموت قد دنا، فالتفت بأقصى سرعة لأجد إسرائيلياً يصوب مدفعه نحوي، ويطلق النار...


أغمضت عيني لكني لم أتألم وحين فتحتها رأيت جندياً من طليعتي قد تلقى الرصاصات بدلاً مني، وقفز فوق الإسرائيلي يطعنه، حتى أنهى حياته، ثم التفت لي مبتسماً رافعاً يديه علامة النصر... وفاضت روحه إلى بارئها..


التفت في غضب شديد نحو (إيزاك) وانقضضت عليه كأسد هصور، وما إن رآني حتى أصابه فزع رهيب، وأخذت أصفعه على وجهه الدميم قائلاً:


- قاتل كرجل.. قاتل.. قاتل كي أفجر رأسك...


لكنه فقد الوعي....


***


8 أكتوبر 1973


وقفت مبتسماً محيطاً جسدي بعلم مصر، وأنا أراقب هؤلاء الأسرى الإسرائيليين الجالسين فوق رمال سيناء، تلاقت عيناي مع عينيي (إيزاك) فأبعدهما في مرارة...


اقتربت منه وتأملت شفتيه الجافتين وقلت:


- ماء؟!


نظر لي في خنوع أن نعم، فأخرجت قربتي الصغيرة وأملتها نحو شفتيه فشرب حتى ارتوى، نظرت له في عزة قليلاً ثم قلت باعتداد:


- أهلاً بك في مصر...


***


19 مارس 1982


دمعت عيناي فرحةً، وأنا أشاهد العلم المصري في التليفزيون، وهو يرتفع ليرفرف على أرض طابا...


***


17 أغسطس 1990


شاهدت القوات المصرية تقتل وتُقتل على أرض الكويت والعراق، فارتجفت وأنا أتمتم:


- ليس هذا ما حاربنا لأجله!!


***


18 سبتمبر 2003


لم تكن العاصفة في صحراء العراق فقط، لكنها أيضاً كانت في قلبي...


***


5 يناير 2009


جرحى هنا وهناك، قتلى، قصف بربري، أطفال تموت، أمهات تصرخ، والكل يردد:


- أين جيوش العرب لتنقذ غزة؟!


قلت بيني وبين نفسي:


- أتراني ما زلت أقدر على القتال؟!


***


25 فبراير 2025


أقف فاتحاً فمي في بلاهة، وأنا أشاهد العلم الإسرائيلي الأزرق يرفرف في سماء القاهرة، أحفادي يبكون تحت أقدامي، وهم ينتظرون مصيراً بشعاً لأحلامهم، قلبي يخفق بقوة شديدة، وعيناي تهربان مني...


أسقط على الأرض محاولاً أن ألتقط أنفاسي دون جدوى، قلبي يتواثب كالمجنون، وأحفادي يلتفون حولي منادين باسمي في فزع..


لا أدري لمَ تذكرت وجه (إيزاك) الدميم؟!


ولا أدري لمَ بدا لي يبتسم؟!



27 مايو 2009

الأحد، 24 مايو 2009

حماده...


في يوم من الأيام...

في سالف العصر والأوان..

ومن قديم الأزل وسحيق الأزمان..

اللي هو امبارح يوم الجمعة!!!

خرجت من البيت نازل لصلاة الجمعة مررت جوار رجلٍ يرتدي جلباباً مهترئاً مليئاً بالرقع له ذقن غريبة.. لا هى نامية ولا هى حليقة..

كنت أعرف شكله فهو مجنون يقطن بشارعنا.. منذ ولدت وأنا أراه.. لا أدري متى جاء، وكم عمره، وما ظروف حياته، لذا بدا لي مثيراً للغاية أن أسمعه يحادث نفسه قائلاً في خفوت:

- أنا وحيد ومحدش بيسأل علىَّ.. لا أخ ولا أخت.. لا أم ولا أب.. محدش بيسأل علىَّ...

اقتربت منه أكثر كي أصيخ السمع، وقد عزمت في نفسي أن أجعله مادة قصتي القادمة، استمعت إلى حديثه الخافت مع نفسه:

- عايش لوحدي.. محدش بيسأل علىَّ.. لا أخ ولا أخت.. لا أم ولا أب.. لازم أخلص حياتي انهارده...

في نفس اللحظة مررنا جوار (فكهاني) يجلس أمام دكانه الخشبي الصغير، ويدعى عم (علي)... قال بصوت عالي:

- إيه يا واد يا (حماده)؟ عامل إيه؟!

تمتم (حماده) مع نفسه بصوته الخفيض:

- عم (علي) ده أنا مش بطيق أمه.. بس هو الوحيد اللي بيسأل علىَّ..

ثم بصوت عالٍ قال:

- إيه يا عم (علي)؟!
- رايح تصلي ولا إيه يا (حماده)؟!
- آه..

قالها ثم ترك عم (علي) كأنما لم يره، وما زلت أنا أحث الخطا لأكون جواره محاولاً ألا يشعر بمراقبتي له قدر الإمكان..

قال لنفسه مرة أخرى، بنفس الصوت الخافت:

- أنا عايش لوحدي.. لا أخ ولا أخت.. لا أم ولا أب.. محدش بيسأل علىَّ.. أنا لازم أخلص حياتي انهارده.. بعد ما أصلي العصر هرمي نفسي من فوق السطح، وأشوف بقى هيسألوا علىَّ ولا لأ!!

أصابني التوتر لما سمعت كلماته الأخيرة، وبدأت أشعر أني استمع إلى الهذيان الأخير في حياة إنسان، فعزمت أن أظل وراءه حتى بعد الصلاة، لعلي أقدر على منعه من الانتحار..

ولم أشك لحظة في أنه سينفذ كلماته، وقلت لنفسي:

- واضح تماماً إنه منفسن.. وشكله هيعملها ويرمي نفسه..

المهم.. وجدته ينظر لي في تركيز كأنما لفت انتباهه أني أراقبه، فأصابني القلق وسبقته بعدة خطوات ثم انحنيت كأني أعدل ثيابي وأخرج حجراً دخل في (الشبشب)، حتى أصبح جواري فقمت من جديد..

ولم ألبث أن اقتربت منه حتى لمحت شيخاً كبيراً يقترب منا، ويقول بصوت جهوري ضاحك وهو يحيط (حماده) بذراعه:

- إيه يا (حماده) مش ناوي ترمي نفسك من فوق السطح زي كل جمعة؟!!

ما إن سمعت تلك الكلمات حتى انخرطت في ضحك محموم، وأخذا ينظران لي في دهشة كأنني أنا المجنون.....

وتوتة توتة فرغت الحدوتة....



24 مايو 2009
الأحداث حقيقية تماماً :))



السبت، 16 مايو 2009

حياة مصاصي الدماء...


العام 2100 ..


الليل ..


لقد حان الوقت إذاً ..


أنهض من فراشي في بطء ، ثم أتثائب في قوة ، اللعنة إن حياة مصاصي الدماء صعبة حقاً ..


الجو بارد للغاية أحتاج إلى الدماء الدافئة حتى أنتعش ..


أنظر حولي فأرى رفاقي يستعدون هم أيضاً ، انطلقنا وكل منا يدرك أنه قد يذهب ولا يعود ..


لقد تطور البشر كثيراً ، وأصبح مص دماءهم عملية شاقة للغاية ..


انطلقت ورأيت تلك النافذة المفتوحة .. هاهاها يا لهم من حمقى! ..


البشر هم البشر في كل زمان ومكان ، يعلمون بوجودنا ويخشوننا ومع ذلك يفتحون النافذة على مصراعيها ..


حسناً إنها غرفة مظلمة فلأدخل وأتوارى في الظلام و حين يدخل أحدهم .....


لمعت عيوني في الظلام وأنا أتخيل الدماء تندفع إلى جسدي فتوقظه من سباته العميق طوال النهار ..


وجلست صامتاً في الظلام منتظراً وكلي حماس وشوق لشرب الدماء ..


أسمع أصواتاً تقترب .. هل مكاني واضح ؟؟ أعتقد أن خلف ذلك الباب سيكون مفاجأة أفضل ..


نقلت مكاني في خفة وهدوء إلى خلف ذلك الباب .. وسمعت الخطوات تقترب وتقترب ..


لمحت أحد أصدقائي ينظر من النافذة يبدو أن الغرفة استهوته كما استهوتني ..


لكن الأحمق لو رأوه لقتلوه .. يا له من غبي! .. لابد أن أحذره ..


تركت مخبئي واتجهت في سرعة إلى صديقي كي أحذره ..


لم يكن يدري شيئاً لقد أعماه الجوع عن التفكير السليم ..


اندفعت واصطدمت فيه وقفزت معه خارج النافذة ..


في نفس اللحظه التي دخلت فيها امرأة تلك الحجرة .. وأشعلت أضوائها ..


قلت له :


- أيها الأحمق .. كدت تقتل نفسك وتقتلني معك .. ألم تسمع تحذيرات العظيم (أزيزوس) ؟؟ ألم يقل بصوته العميق " إياكم أن يراكم البشر" ؟؟


فأجاب صديقي (إنسيكت) في رعب :


- أسف .. أسف يا (فلاي) ..أرجوك لا تخبر العظيم ..

- حسناً لن أخبره .. لكن لا تفعلها ثانية ..


ثم سكتنا قليلاً كانت المرأة دخلت إلى سريرها واستعدت إلى النوم على ما يبدو ..


تلك إذاً فرصة رائعة لنجهز عليها ..


نظرت إلى (إنسيكت) وهمست :


- هيا لنجهز عليها سوياً ..


نظر لي في صمت ..


فأكملت :


- سأخذ القدم اليمنى وخذ أنت اليسرى ولا تنسى تحذيرات (أزيزوس) .." إياكم وآذان البشر " ..


أومأ برأسه في صمت .. فأشرت له أن ينطلق ..


اندفعنا جنباً إلى جنب في صمت وهدوء ..


وانقضضنا على قدميها وأخذنا نمتص الدماء ..


اقتربت معدتي من الامتلاء حقاً ..


لكن ..


آه يا (إنسيكت) يا أحمق .. لمَ اتجهت نحو أذنها ؟؟ .. يا لك من أحمق ..


استيقظت المرأة وأشعلت الأضواء وأحالت الليل نهاراً .. ونادت زوجها ..


اللعنة لابد أن نهرب الآن وإلا ....


ذهبت إلى الأحمق (إنسيكت) وقلت في عصبية شديدة :


- أيها الأحمق .. ألم أحذرك ؟؟ هيا لنهرب سريعاً ..


جاء الرجل ومعه أحد أسلحة البشر الفتاكة .. لقد حذرنا العظيم منها .. لابد أن نهرب الآن وإلا لن نرى العظيم مرة أخرى ..


انطلقت سبابة الرجل تضغط على ذلك السلاح الرهيب فتنطلق ذرات مميتة .. أخذت أناوره وأهرب منه وأحاول الوصول إلى النافذة ..


طلقة أخرى أهرب منها .. حقاً كنت محظوظاً هذه المرة ..


وصلت إلى النافذة ونظرت خلفي لأنادي على (إنسيكت) ..


فرأيته يناور إحدى الطلقات .. لكنها أصابته في مقتل فسقط محتضراً ..


اندفعت محاولاً إنقاذه فرأيت الرجل يرفع سلاحه في وجهي ..


لكني لم أبالي .. و رأيت سبابته تندفع لتضغط على الزناد ..


أوه .. يا لحظي الحسن .. لقد فرغ السلاح ..


سمعت زوجته تصرخ بلغتهم العجيبة :


- إذهب وأحضر مبيداً غيره سريعاً .. أخشى أن يكون ناموساً ملوثاً ..


لم أبالي برده .. واندفعت إلى صديقي وانحنيت عليه وسالت دموعي وقلت له :


- يا أحمق .. قتلت نفسك ..

- إهرب .. لا وقت للوداع ..


سالت دموعي أكثر فقال في وهن :


- إهرب ..هيا .. قبل .. أن .. أن .. يملأ سلاحه .. هيا ..


تركته في حزن عميق واندفعت نحو النافذة ..


وصلت إلى مقرنا الخاص .. كان الفجر قد بزغ واستعدت الشمس للشروق ..


عدت فوجدت الكثير غير موجودين .. ولم يسأل أحد ..


كما قلت لكم ..


نخرج عالمين أننا قد لا نعود ..


حقاً إن حياة مصاصي الدماء صعبة للغاية ..


ألستم معي في هذا ؟!!


22 سبتمبر 2008


إهداء إلى الصديقة العزيزة ولاء :)

الخميس، 14 مايو 2009

صوت الصمت!!


الصمت يخيم ويسيطر على كل شيء، على الأجواء الخانقة، على الأنفس اللاهثة من شدة الحرارة، على الوجوه المكدودة المرهقة، يسيطر عليها ثم يتخلله دقات رتيبة مملة: تن.. تن.. تن..


أستمع إلى الصمت والدقات التي أصبحت جزءاً منه، وأنا أقف متأملاً تلك الوجوه حولي والتي صمتت بدورها متأملةً...


شيءٌ غريب يجبرني على الصمت ويجبر صديقي أيضاً عليه، فننظر لبعضنا البعض دون أن نتحدث ثم نشيح بوجوهنا كأن عيوننا لم تتلاقَ، تأتي وفود جديدة من بعيد ضاحكة مبتسمة ما إن تصل إلينا حتى تقف صامتة وقد تلاشت ابتسامتها وحلت محلها نظرة لا تدرك معناها، تندمج معنا في بوتقة الصمت الرهيب كأنما نقف في سرادق عزاء..


أنظر حولي.. هنا وهناك.. يميناً ويساراً.. هم بشر مثلي، نعم لا أعرفهم لكن من قال أني أعرفني؟!..


أتجول بنظري بينهم، أرى فتاة جميلة المحيى، رائعة الجمال، لها عينان بنيتان كورق الشجر في الخريف، ويدان مكتنزتان تلمع فيهما الخواتم الذهبية، أفتح عيني في ذهول لأتأكد من كونها من أظن أنها هى، أراقبها وهى تُخرج منديلها الأحمر الكبير وتمسح عرقها الذي تصبب غزيراً على جبهتها من شدة الحر، عرقٌ شديد بارد تصبب على وجهي حين التفتت وتلاقت أعيننا...


الآن تأكدت ظنوني.. إنها (نورا) حب الصبا...


تبعد عينها عن عيني، وتمسح عرقها مرة أخرى ثم تنظر إلى الخلف قبل أن تعود ببصرها إلى اللامكان في شرود...

أظل أتأملها وأحاول أن أتجاهل تلك الدقات الرتيبة وأتذكر ما كان...


المنشية.. عمارة 6.. مدرسة الشهيد البلتاجي الثانوية المشتركة.. فصل 2/3..


تن.. تن.. تن..


النظرة الأولى.. الحب الأول.. القصيدة الأولى..


تن.. تن.. تن..


تمر السنون أمام عيني سريعة كأنما هى رصاصات تنهمر من رحم بندقية تنجب لأول مرة، ولا أتمكن من ملاحقتها فأخذُ نفساً عميقاً وأنا أعود بذاكرتي إلى المشهد الأخير...


كان هناك نفس الصوت الرتيب، وكان هناك أنا، وكان هناك (نورا)...


القيظ يلفح وجوهنا، والضيق يلفح أنفسنا من الداخل، والصمت هو الملك كما هو الآن، والأرض تهتز تحت أقدامنا كما تهتز الآن...


حينها نظرت لها محاولاً أن أقطع الصمت، لكن لساني لم يطاوعني، إن جريمتي أكبر من أي كلام يقال، نظرت لي هى الأخرى وعيونها بالدموع ممتلئة، وبدا على وجهها أنها تحاول أن تقطع الصمت، لكن الصمت كان أقوى منا...


تبادلنا النظرات والدقات الرتيبة ما زالت تئن في ألم: تن.. تن.. تن..


ظل الصمت ثالثنا حتى رفعت هى يدها وخلعت الدبلة التي نُقش عليها اسمانا ثم وضعتها في يدي ولم تنتظر حتى تنتهي الدقات من الأنين لكنها استدارت وذهبت لتتركني وحدي مع الدبلة والأنين...


حاولت أن أقفز فوق تلك السلسلة وقد تحولت الدقات في أذني إلى صرخات لكن أيادٍ كثيرة جذبتني دون أن تُخرج صوتاً يكسر ذلك الصمت المخيف..


استكنت بين الأيدي ونظرت خلفي نحوها، ورأيتها تسير وتسير حتى اختفت في الأفق، حينها اهتزت الأرض بشدة ثم سكنت وانخفضت السلسلة وعبرت إلى الجانب الأخر، وقد قررت أن أنسى...


تن.. تن.. تن..


أعود إلى الواقع على صوت الدقات الرتيب، وأدرك أني لم أنسَ وأن قراري هذا لم يتحقق يوماً، فـ(نورا) لم تترك مخيلتي لحظة، دوماً كانت معي، طالما جاءتني صورة عينيها الممتلئتين بالدموع فتمنعني من نسيان ما كان...


الآن سأكسر الصمت الذي لم أفلح في كسره يومها!...


أذهب إليها بخطوات واسعة متوترة، أقف جوارها فترفع رأسها لتتقابل أعيننا من جديد، أحاول أن أتكلم لكن سلاسل الصمت التي تقيدني تشد من قبضتها على لساني فيمتنع عن الكلام، أجاهد كي أكسر الصمت الذي كسرني كل تلك السنين لكنه كالعادة أقوى..


تنظر لي وعيناها – هذه المرة – خاويتان من أي تعبير.. بلا دموع.. تتأملني قليلاً ثم تشيح بوجهها، أقف أمامها محاولاً أن أقول شيئاً لكن الكلمات أفلتت من لساني وخضعت في ملكوت الصمت..


يأتي رجلٌ مسرعاً نحونا ثم يقف جوار (نورا) وتمتد يده إلى يدها فتتشابكا قبل أن ينحني نحو أذنها فيهمس فيها بكلمات لا أدريها وإن جعلتها تبتسم فأدرك أنه لا مكان لي هنا وأعود إلى صديقي الذي لم ينتبه كثيراً لاختفائي...


أقف جواره في صمت، وأنا أحسد ذلك الرجل الذي فاز بـ(نورا)، لكني من داخلي أدرك أنه يستحقها فهو – على الأقل – استطاع أن يكسر حاجز الصمت بينهما...


تهتز الأرض بشدة ويعبر ذلك القطار أمام وجوهنا، لكني لا أحاول أن ألقي بنفسي أمامه هذه المرة، يمر أمامنا سريعاً شامخاً بعدما انتظرنا مروره طويلاً، تسقط السلسلة التي تمنعنا من العبور أرضاً، فتعبر (نورا) ورجلها، في حين ألتفت أنا نحو صديقي وأودعه ثم أستدير لأسير عائداً من حيث أتيت... في صمت..


6 مارس 2009


قصة كئيبة بقى عشان خاطر الاستمحانات :)

وعلى فكرة مش حقيقية :))



السبت، 9 مايو 2009

راكب الدراجة...


خرجت من البيت متجهاً إلى أصدقائي، شممت في الهواء رائحة التوتر، موسم الامتحانات قد بدأ وها الصغار عائدون بعد ما انتهوا من امتحان الحساب وعلى وجوههم الفرحة..

سرت على جانب الطريق كعادتي، ووضعت (الهيد فون) في أذني محاولاً أن أنعزل عن العالم، ومتقمصاً شخصية العبقري المتأمل، تساءلت بيني وبين نفسي عن سر الذي أفعله ثم أدركت السبب حين تنبهت إلى تلك الفتاة التي تسير أمامي والتي سأمر جوارها بعد عدة خطوات...

لا أعرفها ولا تعرفني، وفي الغالب لن ترى وجهي قط، إلا أن رغبة بداخلي دفعتني دفعاً لفعل ما أفعله، نفشت صدري ورفعت وجهي إلى السماء، رسمت ابتسامة متأملة على شفتي، وأخرجت من جسدي كل الثقة التي يحتويها لأضعها في عينيي...

اقتربت منها فصارت على بعد خطوة مني، وتعمدت أن أقترب منها لتشم ذلك العطر المركز الذي وضعته قبل أن أنزل، حين لمحت ذلك الرجل يسقط من فوق دراجته...

انتفضت وجريت نحوه في سرعة، حملته من فوق الأرض، وانتفخت عروق جسدي كلها كأنني (هرقل) وقد انتهيت من قتل وحش ذي خمسة رؤوس..

وضعته على الرصيف في حرص وبدأ الناس يلتفون حولنا، بدأوا يربتون على ظهره متعاطفين، كان فاقد النطق والإدراك لكني كنت أعرف كيف أتصرف...

- سيبوه هيفوق لوحده..

صحت بهم بالجملة السابقة، ونظراً لأني أول من أنقذ الرجل، اعتقدوا أنني أعرفه وأعرف ما يمر به...

انهالت على رأسي الأسئلة...

- عربية خبطته؟!
- لا وقع لوحده..
- أنت ابنه؟!
-لا أنا...
- هو إيه اللي حصل؟! عربية خبطته؟!

وتكررت الأسئلة بشكل عجيب، كأنما وجب علىَّ أن أفسر الموقف لكل من حضر متأخراً، نظرت في ساعتي فوجدت دقيقين قد مرتا.. بدأت أقلق على الرجل لكني كنت أثق في معلوماتي بدرجة تفوق توتري.. فانتظرت...

أخيراً أفاق الرجل المسكين، ونظر لنا شاكراً، أخذ يهز يديه بعدما كانتا متجمدتين كالحجر، نظرة عينه مكسورة، لكني استطعت أن أفهم مشاعره، كان يشعر أن كرامته قد جرحت ولابد أن يهرب من هذا المكان، فلتذهب صحته إلى الجحيم المهم ألا يبقى هنا لحظة واحدة...

قام بصعوبة شديدة وكاد يسقط مرة أخرى، لكن ألف يدٍ امتدت لتساعده، بمعاناة ركب دراجته، وبمعونة ألف يدٍ بدأ يسير...

وقفنا جميعاً نرمقه يسير مترنحاً منتظرين سقوطه بين لحظة وأخرى.. لكنه فعل المعجزة وأكمل طريقه...

نظرت حولي فوجدت الجموع تنفض وبحثت بعينيي عن تلك الفتاة التي جذبتني فلم أجدها، سرت قليلاً متأملاً في طبيعة البشر، إنهم حقاً أضعف من أن يظلموا أو يحقدوا أو يعصوا..

وابتسمت حين تذكرت تلك الجموع العطوف وأدركت أنني لن أخشى على نفسي إن فقدت وعيي في الشارع يوماً، فهناك ألف يد ستمتد لتضعني على قدمي من جديد..

لمحت تلك الجموع فوجدت الرجل المسكين قد سقط مرة أخرى يئن، اقتربت منه في جزع كأنما هو أبي، وقلت:

- مش قلتلك مش هتقدر تروح؟ حد يركب عجلة وهو مش قادر يقف؟!

ثم ساعدت الأيدي التي توقفه على قدميه، وركبت دراجته وأشرت للناس أن يضعوه أمامي ففعلوا، سألته عن عنوان بيته فأخبرني...

انطلقت به وقد تأخرت كثيراً عن ميعادي مع أصدقائي، وبعدت أكثر عن المكان الذي سألاقيهم فيه، لكني لم أهتم...

وصلنا إلى حارة بسيطة، فوجدت أناساً كُثر ينقضون علينا في جزع، ساعدوا الرجل على النزول وبدأوا ينظفون له ثيابه من التراب الذي أصابها جراء السقوط.. نزلت من فوق الدراجة وناولتها إلى أهل منطقته فابتسموا لي شاكرين.. فاقتربت منه مبتسماً وقلت:

- خلي بالك من صحتك...
- الله يصلح حالك يا بني.. تعبتك معايا..
- عيب يا حاج.. متقولش كده... ده أنا زي ابنـ....

قاطعني صوت ملهوف خائف يقول:

- بابا.. بابا.. أنت كويس يا بابا؟!

التفتُّ لأجدها تلك الفتاة التي انجذبت إليها!!!

- إيه اللي حصل يا بابا؟!

لثمته وهى تسأله عما حدث، فنظر نحوي بامتنان وقال وهو يشير بسبابته تجاهي:

- الله يصلح حاله جابني لحد هنا...

شعرت بالخجل والدماء الحمراء تتدفق في وجهي، والفتاة تنظر لي نظرة امتنان عميقة، لا أعتقد أن عطري النفاذ كان سيجعلها تمنحني إياها يوماً....


9 مايو 2009