السبت، 24 يوليو 2010

دنيـــــــا رجـــــال

القصة الفائزة بالمركز الثالث في ساقية الصاوي 2010


دنيــــــــــا رجــــال




حين كنتِ صغيرة، كانت أمكِ تحملكِ على كتفها وهي ذاهبةٌ إلى السوق كل يوم، تضعكِ بجوار قصعة الطماطم، فلا يعرف المشتري إن كانت تبيعكِ أنتِ أم تبيع الطماطم..!
أبوكِ كان يأتي إليكما بعدما ينهي عمله في الفرن البلدي، ودائماً كانت يداه متسختين بلونٍ أسود، وكنتِ تخشينهما، لكنكِ كنتِ تتقافزين فرحةً حين ترينه، تتقافزين على قدمكِ اليسرى وحدها، وأنتِ لا تفهمين لمَ لا يمكنكِ القفز على اليمنى!.. كثيراً ما تأملكِ في أسى، ثم احتضنكِ وهو يتحسر على حظكِ القليل في الدنيا...
حين مات لم تفهمي ما الموت، حتى حين كبرتِ لم تفهمي ما الموت، كل ما فهمتِ أنه لم يعد هنا، كل ما بقى منه اسمٌ منقوش على حجرٍ في منطقةٍ مخيفة يسمونها المقابر الخيرية، وبيتٌ هو غرفةٌ واحدة تسكنيها وأمكِ.. حتى يده السوداء أخذها معه..
بعد موته ظلت أمكِ تأخذكِ معها إلى السوق، تجلسكِ جوارها، لم يعد هناك أحدٌ يهتم بمسح مخاط أنفكِ الذي يسيل، لم يعد هناك من يذب الذباب عن وجهكِ الصغير، لم يعد هناك من يأخذكِ إلى حمام الجامع فجعلتيِ مكانكِ حمامك الخاص.. دوماً تنهرك أمكِ وهي تبعدكِ بسرعة عن الطماطم حتى لا تطولها رائحة إخراجكِ العفنة..
دعوتِ الله أن يأخذ – حتى – قدمكِ السليمة، ويعيد إليكِ أباكِ.. لكنه لم يأخذها، وأبوكِ لم يعد.

***
ولما بلغتِ من العمر عشراً، كنتِ قد بدأتِ تفهمين الدنيا، أدركتِ أنكِ لستِ سوى غزالةٍ عرجاء، لن تستطيع العدو هرباً من الأسود.. أتذكرين يوم جاء ضباط المرافق، فقلبوا لأمكِ الطماطم بأحذيتهم الميري، وقذفوا بها في وجهها، وهي تصرخ دفاعاً عنكِ وعنها؟ أتذكرين حين سبّها الضابط وعساكره ينتزعونها من مكانها بأذرعهم؟ أتذكرين صوت بكائكِ الذي دُفن بصرخاتها؟ أتذكرين الناس الذين نظروا إليكما ولم يدافعوا عنكما؟ أتذكرين نظرة اللامبالاة التي كانت في عيونهم؟ أتذكرين؟
دعوتِ الله يومها أن يأخذكِ كلكِ، ويعيد أباكِ.. لكنه لم يأخذكِ، وأبوكِ لم يعد.

***
فتاتي.. لمَ كنتِ تشاكسين البنات الخارجات من المدرسة التجارية؟ كانت أمكِ ترفض أن تدللي معها، فتفقدين أجمل ما فيكِ.. أرادتكِ كما أرادكِ أبوكِ.. كنتِ تخرجين معها إلى السوق، فتجولين هنا وهناك.. تزُكين على قدمكِ، تضايقين في البنات.. أكنتِ تغارين؟ أم تحسدين؟ حين ينتظر الواحدة منهن فتى بشاربٍ لم ينمُ كله بعد، وأنتِ لا ينتظركِ أحد؟.. كنتِ تنظرين لقمصانهن البيضاء، وتنوراتهن الكحلية، ثم تنظرين إلى جلبابكِ الوردي، المليء بالبقع والرقع.. تتأملين أقدامهن السليمة، ثم تتأملين قدمكِ اليمنى في حسرةٍ لا تزيدكِ إلا مشاكسةً فيهن.

***
كانت أمكِ تكابد الزمن، والكبر يضنيها.. وظلت تصر على رفضها لطلبكِ بأن تجلسي مكانها وتبيعي أنتِ الطماطم.. أتذكرين عم (جلال) جاركم؟.. كان رجلاً طيباً، يعمل موظفاً في مصلحة الشئون الاجتماعية، اعتبركِ كابنته.. كانت أمكِ ترجوه كلما أتى ليشتري منها الطماطم؛ أن يجد لكِ وظيفةً تحميكِ من الدنيا وأذاها.. كانت تزيد له في المكيال، وتمنحه بالخمس ثمرات مرةً واحدة فوق طلبه.. يتبسم وهو يعِدُها بأنه سيبذل ما في وسعه فتهلل وتدعو له كأنما قد عينكِ رئيسة الدواوين.

***
حقاً صدق الرجل وعده، وجلب لكِ وظيفةً في الوحدة الصحية بطفح الدم، بعدها مات وكنتِ تبكين في حرقةٍ.. ها قد مات أبوكِ من جديد...

***
مع أول شعاع شمسٍ يدخل من شباكِكِ الأخضر، فيهدهدكِ ويطقطق لكِ أصابعكِ مداعباً؛ تستيقظين.. منذ أعوامٍ كثيرةٍ لا تدرين لها عدداً وأنتِ تستيقظين مع هذا الشعاع، ربما استيقظتِ يوماً قبله فانتظرتِه، لكنك لم تستيقظي أبداً بعده..
قمتِ من سريركِ: متعثرة الخطى؛ بقدمكِ اليمنى المعوجة أسفلكِ، متعسرة الهضم؛ فقد طمس الفول على الفول.. انتهيتِ من حمامكِ البلدي الذي كان عسيراً، وانحنيتِ على الكنبة المجاورة لسريركِ الصغير تداعبين أمكِ بكلماتٍ ناعسةٍ، حتى أفاقت..
إلى ركن الغرفة رحتِ. ومن فوق الشماعة الخشبية البسيطة المعلق فوقها عدة جلابيب؛ اخترتِ جلباباً، وربطتيِ رأسكِ بالطرحة التي اشتريتِها من راتبكِ الأول..
أمام المرآة الصغيرة النصف مكسورة وقفتِ..
يا لجمالكِ!.. حقاً أنتِ جميلةٌ، بيضاء كالقشدة يحلف ببياضكِ كل نسوة الحارة، عودكِ فرنساوي كعود أمكِ.. أنتِ قمرٌ إذا تغاضينا عن هالةٍِ سوداء أو اثنتين أسفل عينيكِ.. أنتِ فاتنةٌ إذا تجاهلنا عرجكِ الشديد الذي لا تخطئه عينٌ إلا عمياء.. لكن أيتجاهل العرسان ذلك؟
أنتِ لا تخرجين من البيت إلا بحثاً عن واحد، ولا تدخلينه إلا لتسألي عن واحد، أجاء العريس يا أمَّا؟ ولمَ لم يأتِ بعد؟! هو أنا وحشة؟!
تنظر لكِ ولا تجيب...

***
تخرجين من البيت، فتجدينه.. كل يومٍ هو واقفٌ ينتظر.. لو كان غرضه شريفاً لطرتِ من الفرحة به.. لكنه حقير، وقح، كشعاع القمر يتلصص عليكِ وأنتِ نائمةٌ بالليل.. اسمه (فوزي)، يده سوداء تذكرك بيد أبيكِ، لكنها سوداء بسبب شحم السيارات التي يرقد تحتها يصلحها.. يعمل في ورشة الأسطى (حمدي) على أول الحارة، ويبدو أنه وضعكِ في عقله ولن يثنيه أحدٌ أو شيء..
كل يومٍ حين تخرجين ذاهبةً إلى عملكِ يكون هنا، واقفاً ينتظركِ وعيناه تلمعان بنظرة ذئبٍ وجد – أخيراً – خرافاً بلا راعي أو كلب.. يقترب منكِ ولسانه يتحدث بحسن الكلام وقبيحه معاً..
- ما كل هذا الجمال يا بنت؟! ستكونين فرساً في السرير.. ارضي عني وسأجعلكِ تأكلين لحماً كل يوم.. سأعطيكِ خمسين جنيهاً في الساعة الواحدة.. آه يا بنت.. ستكونين فرساً في السرير..
تتجاهلينه فقد اعتدتِ سفالته، لكنه اليوم يقترب وبشدة، بكفه يضرب صدركِ ويبعدها في سرعة، تستديرين وقد احتقن وجهكِ.. لقد حدث مالا تتوقعين.. تصرخين..
- والله لألمّ الخلق ليعطوكَ علقةً لن تنساها أيها الزبالة..
- أموت وتكوني في سريري وأنا فوقكِ!..
- تعال اطلبني من أمي إن كنت ترغبني..
لدهشتكِ يضحك.. تصرخين، ويضحك.. تصرخين، ويضحك.. والناس تنظر وتضحك، وكأن ضحكته بصوتٍ وصراخكِ أخرس.. تقولين لنفسكِ: إنهم لا يسمعون إلا الرجال!..

***
لا تعرفين كيف فلتِ من (فوزي) اليوم، ولا كيف تفلتين منه كل يوم.. المهم أنك تصلين إلى عملك في وحدة (رابع النجار) الصحية، تلك الوحدة التي تطل على السوق العمومي مباشرةً، تجلسين هناك فتسمعين أمكِ تزعق بسعر الطماطم متغنيةً بحَمَارها في فرشتها على مدخل السوق..
في الوحدة تشعرين براحةٍ كبيرة، فهي قريبةٌ من البيت، تجعلك تخالطين رجالاً كُثر، بل وتلفين على البيوت أيضاً مع (نوال) الممرضة الشابة، أحياناً يصاحبكما طفلٌ أو شابٌ، يطلقون على أنفسهم أسماءً لا تفهمين لها معنى: (كالكشافة) و(الجوالة).. وأحياناً أسماءٌ تفهمين منها أنهم يتبعون الحكومة أو الجمعيات الخيرية، لكنكما اليوم ستلفان وحدكما، كالمعتاد تناولكِ (نوال) حقيبةً زرقاء ثقيلةً قليلاً وتنطلقان..
آنستي.. لا تنكري استمتاعكِ بهذه الوظيفة، رغم عائدها القليل، ورغم مشقتها، إلا أنكِ مستمتعة.. ألستِ؟!.. لقد درتِ البلدة كلها، لم يبقَ إلا بضع مناطق تُعد على أصابع اليد، لكنها للأسف من اختصاص وحداتٍ أخرى.. لا يهم.. إن وظيفتكِ تمنحكِ ثقةً من الناس كبيرة، ألا ينظرون لكِ على أنكِ منقذة أطفالهم؟ بل وأحياناً ما يأتون فيسألونكِ عن مواعيدٍ وأشياء؟ كثيراً ما تجهلين الإجابة، لكنكِ ترسمين بحاجبيك الرفيعين علامة التذكر وتقولين:
- والنبي ما أنا فاكرة.. روحوا اسألوا في الوحدة وهناك سيخبرونكم..
من ألسنتهم ينهمر الشكر عليكِ كأنما أجبتِ الإجابة الوافية، فلا يزيدكِ إلا حباً في وظيفتكِ، وترحماً على عم (جلال)...

***
تبدأ رحلتكِ مع (نوال)، تطرقان الأبواب بحثاً عن أطفال لم يتعدَ عمرهم الخامسة..
بوطأة الوقت – وللوقت وطأة – أصبحتِ تحفظين البيوت التي تحوى أطفالاً، بل إنك تحفظين بعضاً من أسمائهم وأعمارهم كذلك..
حين تكتب (نوال) اسم الطفل في دفترٍ لا يبرح يديها، فإن أمتع لحظات حياتكِ تحين. تأمركِ بلهجةٍ سريعةٍ: قطرتان، أحياناً ثلاث، أو أربع.. وأنتِ تطيعين الأمر دون نقاش، فأنتِ في أمس الشوق إليه.. تتكئين على قدمكِ السليمة، لتحملي الطفل بين يديكِ – ويا سلام لو كان رضيعاً – وتبسملي عليه، وتحوقلي، ثم تفتحي فمه الصغير، وتقطري فيه عدد القطرات الذي حددته لكِ (نوال)، قبل أن تعيدي القطارة الصغيرة إلى أخواتها الكثيرات في العلبة الزرقاء..
حين تحملين الطفل؛ تطفو على يديكِ ووجهكِ كل مشاعر الأمومة الغارقة داخلكِ، فتحلمين بالطفل الذي سيناديكِ: (ماما).. ستسميه (جلال)، أو (أحمد) على اسم جدكِ، لا بل (إبراهيم) على اسم أبيكِ، رحمهم الله جميعاً.. لكن ماذا إن كان بنتاً؟ ربما سميتها (مروة) على اسم طبيبة الوحدة علها تصبح طبيبةً مثلها، أو (عيشة) على اسم أمكِ.. لكنكِ أبداً لن تسميها (نوال)..
ولم تكوني تطيعين (نوال) بالحرف الواحد، فحين تذهبين لتطعيم أطفال الخالة (أم الخير) الخاطبة؛ تستوصين بهم وتقطرين في أفواههم العدد الذي يخطر ببالكِ، حتى أنكِ في مرةٍ أنهيتِ قطارةً كاملة في فم الولد (إبراهيم)، أتذكرين الحساسية التي أصابته بعدها؟ لم يستطع أحدٌ أن يربط بين ما فعلتِه وما حدث، حتى أنتِ لم تستطيعي..
المهم أنكِ تفعلين ذلك وأنتِ تنظرين (لأم الخير) في مسكنةٍ واستعطاف، فتضحك الحيزبون وتقول:
- عقباكِ لما تطعمي أولادكِ..
ثم تضيف في خبثٍ:
- بأمر الله عريسكِ عندي يا بنت..
تتصنعين الخفر وتضحكين مغمغمةً:
- متى يا خالتي؟ متى؟
فتلكزكِ بمرفقها في كتفكِ وتقول:
- قريباً يا بنت.. قريباً..

***
وبالرغم من أنكِ في آخر مرةٍ ذهبتِ ليسننوكِ، فمنحوكِ ما يزيد عن الثلاثين بعام، لم تيأسي..
وكيف تيأسين وقد تزوجت قبلكِ (بديعة)؟!.. وأين (بديعة) الرفيعة كشعرةٍ من قوامكِ الممتلئ قليلاً المثير؟! وأين (بديعة) بشعرها القصير المجعد (المقمل) من شعركِ الأسود الطويل الذي تغسلينه بالجاز كل أسبوع؟! وأين (بديعة) السوداء كفحمة من بياضكِ النقي الذي لا يفرق عن اللبن في شيء؟! أين (بديعة) من كل هذا؟!.. لكنها تزوجت.. تزوجت رجلاً يحميها من شرور دنيا الرجال، أسداً يقيها عضات الذئاب.. تزوجت ظلاً يظلل عليها، وذكراً يشبعها.. لقد ملكتْ الدنيا.. لن يضايقها بذئٌ مثل (فوزي) أبداً إلا وقتله زوجها، لن يخوض الناس في سيرتها إلا والخوف يملؤهم أن يسمع زوجها، بالتأكيد يعطف عليها كأبيها، ويحن عليها، وتبكي على صدره تشكو له من كل الدنيا ولا تخاف.. رباه!.. لقد ملكت الدنيا.. ملكتها لأن قدميها سليمتان.. إن العرسان لن يرضوا بواحدةٍ عرجاء حتى لو كانت ست الحسن والجمال، ربما قبلوها لو كانت غنية، أو متعلمة، أو حتى صغيرةً في السن.. لكنكِ لستِ هذه أو تلك، ورغم ذلك لا تيأسين...

***
لم تفهمي لمَ يقتصر عملك على الأطفال فقط، ولم تفهمي أصلاً ما تلك القطرات التي تعطيها لهم، حتى لم تعي معنى كلمة (تطعيم) تلك..
ولم تسألي. وإن سألتِ سيسخرون منكِ ولن يجيبوا. وإن أجابوا لن تفهمي في الأغلب. وإن فهمتي فقولي على المرضى السلام؛ فكيف تفهمين ما تفهمه الحكيمات، والممرضات، والطبيبات؟ كيف تفهمين ما يفهموه وأنتِ لم تتعلمي في حياتك سوى الفاتحة؟ عذراً.. فإن للدنيا قوانينها..
لكنكِ لستِ غبية، فالفقر لا يعني الغباء، حتى الجهل لا يعني الغباء.. لقد فهمتِ، فهمتِ أن التطعيم هو تلك القطرات الموجودة في العلبة الزرقاء، وأن تلك القطرات هي أدويةٌ لأمراضٍ بعينها..
اليوم حين سألتِ (نوال) عن المرض الذي تحمون منه الأطفال قالت:
- نحميهم من العرج حتى لا يكونوا عُرجاً مثلك يا عرجاء!
لم تغضبي أو تتضايقي من كلماتها، فقد اعتدتِ جفاءها وكلماتها المدببة كالرصاص، بل على العكس فرحتِ.. ليس للكلمات، ولكن للحدث نفسه.. وفي خبثٍ تناولتِ قطارةً من العلبة الزرقاء، ورفعتِها إلى فمكِ لتفرغيها كلها فيه، سعلتِ قليلاً من مذاقها المرِّ، لكنه لم يفاجئكِ ألم تذوقيه مراراً؟.. ألستِ في كل مرةٍ تعرفين أن الدواء دواء آفتك؛ تتناولين منه قدر ما تستطيعين دون أن تلمحكِ (نوال)؟!!

***
تنهيان جولتكما، فتعودان إلى الوحدة من جديد، تسلمين العهدة – الحقيبة الزرقاء – ثم تمرين على أمكِ لتساعديها في حمل ما بقى في القصعة من طماطم لم تباع إلى بيتكما القريب...
الليل يحتل السماء، ويتوج القمر على عرشها، ولليل ظلمةٌ، لليل رهبةٌ، لليل صمتٌ، لليل شعورٌ يزحف على فقرات عنقكِ فترتعشين.. لكم تخشين الليل!.. لكم تكرهينه!..
تستلقين فوق سريركِ الصغير، تجاوركِ أمكِ على كنبتها، يقتحم ظلام الليل وصمته غرفتكما، يستوطناها، فيسوّد كل شيء، حتى الخيال!..
تقبعين على سريركِ لا تعرفين فيمَ تفكرين، حتى يتعالى شخير أمكِ المنهك، تستمعين إلى الألحان التي تصنعها بأنفها وفمها معاً، وتنسين نفسكِ لتغرقي في نومٍ عميق...
بعد ساعةٍ تشعرين بيدٍ خشنةٍ تتحسس فخذكِ من أسفل جلبابكِ المنزلي، تحسبينه حلماً، لكن تلك اليد تتحسس وجهكِ أيضاً.. لا.. هناك أكثر من واحدة.. هناك يدٌ فوق وجهكِ، وأخرى على رقبتكِ، وثالثةٌ على صدركِ، ورابعةٌ بين فخذيكِ...
أفقتِ.. هناك جلبةٌ، تحاول أن تكون خافتة، لكنها لأذنكِ مفضوحة.. فتحتِ عينيكِ، هناك أربعة، أربعة يلتفون حول جسدكِ كأنه وليمة.. هناك وجهٌ تعرفينه، إنه (فوزي).. من فمكِ تطلقين صرخةً مفزوعة، لكن (فوزي) يوأدها مكمماً فمكِ بيديه، أمكِ قامتْ تضرب فيهم بعصا المقشة الخشبية، دفعها أحدهم فاصطدمتْ بالحائط وسقطتْ، أنتِ تخمشين وجه (فوزي) بأظافركِ، تعضين يده القابضة على فمكِ، ترفصين بقدمكِ اليسرى في الوجوه والصدور، حتى قدمكِ اليمنى تكالبتْ عليكِ معهم، يحاولون تكتيفكِ، تقوم أمكِ من وقعتها، تضرب ظهر أحدهم بالمقشة، يلتفت إليها، يمسك منها المقشة ويشج بها رأسها.. زاغتْ عيناها والدماء تسيل على جبهتها وسقطتْ.. أطلقتِ صرخةً لم تخرج، وازدادت مقاومتكِ، تحاولين القيام من فوق السرير تدفعينهم في عنفٍ، بقبضته يضربكِ (فوزي) في عينكِ وأنفكِ، وبكفه يلطم خديكِ، فينقضون على جسدكِ الأبيض، يقطعون الجلباب، ينهشون من لحمكِ الطازج، ولا تملكين إلا الدموع..
مع صوت الفجر، ينتهي كل شيء، ويفرغ الأكلة من قصعتهم، ويسود صمتٌ قبيح، كأن العالم كله قد فني.. صمتٌ لا يقطعه إلا الأنين، ودقات قلبكِ المرتجف..

***
مع أول شعاعٍ دخل من شباككِ الأخضر، شعرتِ بالخوف منه، كيف تواجهين شمساً فعل بكِ قمرها ما فعل؟!.. أمكِ تقوم من سقطتها، تتحسس رأسها الذي شُج، تبكي وهي تراكِ راقدةً على ظهركِ، رجلاكِ متباعدتان، والدماء تغرق السرير، وآثار اللطم والضرب كالعرق فوق جسدكِ، تقوم فتحضر ملاءةً تستر عريكِ بها، وتقول من وراء دموعها:
- إياكِ أن يعرف أحدٌ بما حصل!.. إياكِ..
لم تتحدثي إلا بدموع، قبلتْ رأسكِ باكيةً، وقفت تنظر حولها في حطام الغرفة، لا تدري ما عليها فعله، لم تشعر بنفسها إلا وهي تمسك بقصعة الطماطم خارجةً، ودعتكِ بدموعٍ فلم تردي إلا بالمزيد منها..

***
حين أتوا لزيارتكِ، لأنك لم تعودي تذهبين للعمل؛ أخبرتهم أمكِ – من خلف الباب – أنك بعافيةٍ قليلاً، وأنها ستبلغكِ سلامهم.. كنتِ لازلتِ على رقدتكِ لم تضمي قدميكِ أو تحركي يديكِ، حتى دموعكِ ظلت تتدفق في الأخاديد الزرقاء المحيطة بعينيكِ، وترتجف فوق خديكِ المجروحين..
تقررين الخروج، فجأةً شعرتِ أن كل ما في الغرفة يخنقكِ، يجثم فوق صدركِِ، كأنها سجنٌ حبستِ فيه نفسكِ بيدكِ، ستخرجين، عدتِ أم لم تعودي، ستخرجين..
قمتي دون أن تغسلي وجهكِ، ارتديتِ جلباباً وطرحةً أسودين، خرجتِ إلى الشارع تنظرين حولكِ في ذعرٍ، لا تعرفين لمَ بدا لكِ أناس الشارع كلهم رجالاً، ولمَ بدوا كلهم يضحكون..
وأثناء سيركِ تمر عليكِ (أم الخير)، وحين تراكِ من بعيد تضحك في خبثٍ وتقول:
- قريباً يا بنت.. قريباً...






6 – 4 – 2010