الاثنين، 1 نوفمبر 2010

غربان المساء (العميان)

ولأن اليوم عيد ميلاد (زوبعة) الثاني؛ صار من الواجب أن أكافئها على احتمالها هذياني سنتين كاملتين. وقد قررت مكافأتها بشيءٍ صغير سيدهشها حتماً وربما يعجبها..

ابنتي العزيزة/ زوبعة.. قد كففت عن الاهتمام بكِ منذ زمنٍ ليس بقريب؛ فقط كي أحضر إليكِ حاملاً تلك الأقصوصة علّي بها أجدك وتجدينني من جديد بعدما تهنا سوياً في الناس.. في الخيال.. وفي زوبعة المجتمع!

الأقصوصة إهداءٌ إليكِ يا ابنتي الصغيرة ذات العامين.. وهي تحمل عناوين شتى في مخيلتي فساعديني على اختيار عنوان واهمسي به في أذني..

كم اشتقت إليكِ عزيزتي.. فدعيني في شغف الاشتياق أفرد إليكِ هذياناً جديداً، واعذري هذياني إن جعل عيد ميلادك تأبيناً!

غربان المساء (العميان)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

الآية 52 - سورة البقرة

(ترنيمة لراحة الموتى) The Requiem

God save us every one,

Will we burn inside the fires of a thousand suns?

For the sins of our hands,

The sins of our tongues,

The sins of our fathers,

And the sins of our young.

Linkin Park

* يَهوه ، أدوناي = كلمتان تساويان لفظ الجلالة الله في اللغة العبرية.

** ابن عمرام = كلمة عبرية تعني ابن عمران بالعربية، وفي القصة تعني هارون عليه السلام.

***

بعد التيه؛ تيهٌ أكبر..

هل كنا نجونا فضعنا؟ أم مجرد عبرنا من ضياعٍ لآخر أكبر؟! أم أنه لا نجاة هنا من الأساس في هذا المكان الموحش المدعو حياة؟! وأي حياةٍ في تلك الصحاري المقبضة بهوائها القاتم المخنوق كأسراب غربان فقأت عين الأفق، وسدت رحم السماء، فلا تعد ترى منها شمساً ولا قمراً ولا سحباً، وإنما فقط ظلامٌ مخيف؟ كأن الهواء أصبح خليطاً من الرمال والغربان معاً!.. تشعر مع لمساته اللافحة بانقباضٍ داخل روحكَ؛ نفس الانقباض الذي تشعر به حين تسمع نعيق غراب.. وتستشعر بداخل فيكَ تلك الحبيبات الرملية الصغيرة التي يحملها، تصطدم بأسنانكَ وتحتكُ بسقف حلقكَ فتود أن تعطس لكنكَ لا تفلح فتسعل بشدة..

مع كل نفسٍ أسعل بشدة، لمَ أتنفس إذاً؟!

ولولا الهواء لنسيتُ أني أعيش ولحسبتُ أني فقط ميت أنتظر الحساب، لكني تائه، أكتشف فجأةً أني حي، وأحسب لأيام أني ميت..

أأنا حيٌ أم ميت؟! إن كان الموت مؤلم فالحياة أكثر ألماً، وإن كان الموت راحةً فلا راحة في الحياة.. لمَ نحيا إذاً؟! لمَ لم نمت من البداية؟! أم أن ما نحن فيه الآن ليس حياة وإنما هو موتٌ أصغر لكنا فقط لا ندرك ماهيته؟! إن كان موتٌ فهل كنا نحيا قبل أن نموت؟ وكيف سنموت ونحن أموات؟

والغربان تنعق فتصر على تذكيري بالموت.. بالقتل!

الأجواء من حولي خاملة فالنهار أوشك على الانتهاء، واستعدت الشمس للرحيل إلى مكانٍ آخر كي تحرق الأحياء فيه، فلتذهب إلى مصر فتحرقها وأهلها أجمعين!

برودة الليل تزحف على الرمال فتبللها بندً باردٍ، وتزحف على فقرات عنقي فأرتجف..

وهم حولي يستعدون لإشعال نيران المساء، ومن يشعل النيران التي تبدد المساء السرمدي داخلي؟

من أغصانٍ ميتةٍ لفظتها أشجارها؛ خلقوا شعلةً بهيةً بلون قرص الشمس الغارب فتتت الظلمات من حولنا قليلاً حتى أصبحنا نرى بعضنا.. كما أخرج ابن ظفر عِجْلاً ذهبياً كالشمس يخور من حفنة تراب.. وسجدوا.. الكثيرون سجدوا.. لكني لم أسجد، ولمَ لم أفعل؟ ماذا إن كان هذا العِجْلَ هو يَهوه* حقاً؟ أأكون الآن كافراً إذاً؟! لستُ أدري!

وهج النيران ينعكس على الوجوه الملتفة حول مصدرها، وغربان المساء تنعق، كأننا نجلس نبكي ألف قتيل!

يمكنني بسهولة معرفة ما يفكر فيه الجمع حولي، تُرى كيف ستكون غضبة ذي اليد البيضاء حين يعرف ما فعله القوم في غيابه؟

ربما أكثرنا قلقاً وترقباً أخوه؛ فقد أوصاه موسى بالحفاظ على جماعتنا، لكن الجماعة قد تفرقت قلوبها والنفوس، أتساءل ماذا يدور في عقلك يا ابن عمرام**!

الصمت يخيم علينا كأنما يخشى أحدنا النطق بأي شيء. قد أوشكت لياليك يا موسى على الانتهاء، وتعود لنا بعد لقاء أدوناي، لكن أحقاً ذهبت للقائه؟ أم أنه هو من يسجد له الآخرون؟ وإن كان موجوداً حقاً في السماء كما تقول؛ فلمَ لم تلقه هنا؟ ألسماء هنا غير السماء فوق الجبل هناك؟ أم أدوناي يسكن فوق الجبل؟! وكيف يسكن الإله؟ وإن كان يسكن فما يمنع أنه يأكل ويشرب ويتنفس ويخور؟ ما الذي يمنع أن يكون هو ذاك العجل الذي خرّ له الآخرون؟ وإن كان كذلك فما الذي سيحدث إن ذهبت فحطمته؟ أأكون ساعتها قد قتلتُ الإله؟!

***

الأنهر هي الأنهر، والليالي هي الليالي..

لا شيء يتغير في هذه الصحراء، كل شيءٍ مقيمٌ ساكن، يهيج فجأةً ثم يسكن كأن لم يكن، امتدادات هائلة مد البصر، رمالٌ لا يفرق بينها سوى انعكاس الشمس عليها..

لا يتغير هنا سوى الهواء: بالليل يهب برياح الصقيع، وبالنهار يلفح. ربما أيضاً تتغير الذئاب فتزيد واحداً في جحرٍ بعيد، وربما تنقص واحداً.. لكن الغربان تزداد دائماً، نعيقها يتعالى كنذير شؤمٍ بِشَرٍ قريب.. وصوتها بالنهار أخف حدةً من الليل، ففي الليل تفيض حناجرها بنعيقٍ كالنشيج، كأنها تترنم بابتهالاتٍ لا نفهم لها معنى.. والليلة يعلو عويلها، يشق الآذان شقاً.. والقلوب..

أرتجف وأرمق المرتجفين جواري، النيران تُدفئ أجسادنا، لكن ما الذي يُدفئ أرواحنا؟ تُرى ما حال القوم هناك؟ أترى عِجلهم قد سكّن أرواحهم المضطرمة؟ أتراهم وجدوا في عبادته راحة قلوبهم؟ لكن كيف يعبدون شيئاً هم من صنعوه ولو من أثر رسول؟ لكن لو كان يَهوه هو الإله الحق ألم يكن يعلم أنهم سيفعلون ذلك؟ لمَ أرسل لنا ذلك الرسول؟ أتراه يفتننا؟ أم أن الإله الحقيقي أراد أن يعبر عن وجوده ويخبرنا بأننا على خطأ؟ أينا الحق هم أم نحن؟ العجل أم يَهوه؟ لمَ لا أذهب فأسألهم؟ لكن ذلك مخيف، ربما انسقت وراءهم.. أو لعل ذلك يكون من حسن طالعي، سجدةٌ لهذا العجل لن تضر وأكون قد ذقت طعم هذا وطعم ذاك فأملك الاختيار السليم.. هو كذلك.. سأذهب..

هجرتُ القوم مستتراً بسواد الليل، ويممتُ وجهي شطر النيران البعيدة للآخرين، وبعد أن خطوتُ قليلاً ناحيتهم ولم يلحظني أحد لمحتُ شبحاً قادماً نحوي من جوار، ولم يلبث أن ظهرت ملامحه وقد رفع الشعلة التي في يده كي يتعرفني وأتعرفه، قال كلماتٍ لم أعِها فقد أفقدتني رهبة المفاجأة لساني، وعدت معه إلى حيث كنت منذ قليل..

حين وصلنا هلل القوم وأخذوا يتحدثون في آنٍ واحد، حتى هدأت قلوبهم وقد أفاضت بسرٍ ثقيل حوته لليالٍ طوال، فألقى موسى ألواحاً من يده فتحطمت، واقترب من أخيه وشده من لحيته وهو يلومه أشد اللوم، وكنتُ أنا لا أزال أرتجف...

***

لم تكن الحياة قد استيقظت بعد في هذه الصحاري حين لمعت رمالها بوهج نيرانٍ حمراء كأنها شمسٌ أخرى غير تلك التي بدأت تزحف نحو قبة السماء..

وقفتُ أرمق موسى وقد أحرق العجل بغضبٍ بينٍ، ثم ذراه في اليم، وقال لنا وقد اجتمع الفريقان معاً: - يا قومي إنكم قد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل.

قال أحدنا: يا موسى، ما من توبةٍ؟

فأجاب: بلى... فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم.

على الطائع منا أن يقتل العاصي، حتى إن كان العاصي ولده أو خليله أو أباه أو أخاه.. ولم نكُ لنجسر، فاستنجدنا بموسى، فُخفف عنا بظلمة، وحلت عقوبة الإله بضبابةٍ عاتيةٍ حطت كليلٍ بهيمٍ دائم يأتي من كل صوب، يُخفي الشمس خلف عباءته، ويخطف الأبصار، فأسرع الكل يتسلح بسيفٍ أو خنجرٍ أو سكين..

أمسكتُ سكيني والظلمة تقبض على كل شيء، حتى صرت كالأعمى، أتخبط وأتحسس أمامي بيدي، وسمعتُ أصوات شقٍِ وتقطيع، وآهاتٍ تعلو، وصليل سيوفٍ بعيدٍ لا يدوم، ورائحة دمٍ تغزو الأنوف..

أدور حول نفسي مترقباًً الطعنة في كل حين، لا أعرف من أين ستأتيني ولا مِن مَن.. أأنا طائعٌ أم عاصي؟ أعلىّ أن أقتل أم أنتظر القتل؟ تخبطت قدميّ في أطراف أجسادٍ مبتورةٍ، وتلمست يدي جسداً فأوغرت فيه سكيني فتأوه حتى سكن، ثم أخرجتها وأنا لازلت أدور حول نفسي، من أين ستأتي تلك الطعنة اللعينة؟ حتماً من خلفي، لكن أين خلفي؟ كل الاتجاهات سواء في هذه الظلمة.. أحتى في الموت أتيه؟

نعيق الغربان يأتي من بعيدٍ، يغلب صوت التقطيع، ويهزم آهات اللحم المتهرئ، ينتصر فوق كل شيء، إنه نعيق.. آه.. آه.. آ.....

1 نوفمبر 2010

السبت، 24 يوليو 2010

دنيـــــــا رجـــــال

القصة الفائزة بالمركز الثالث في ساقية الصاوي 2010


دنيــــــــــا رجــــال




حين كنتِ صغيرة، كانت أمكِ تحملكِ على كتفها وهي ذاهبةٌ إلى السوق كل يوم، تضعكِ بجوار قصعة الطماطم، فلا يعرف المشتري إن كانت تبيعكِ أنتِ أم تبيع الطماطم..!
أبوكِ كان يأتي إليكما بعدما ينهي عمله في الفرن البلدي، ودائماً كانت يداه متسختين بلونٍ أسود، وكنتِ تخشينهما، لكنكِ كنتِ تتقافزين فرحةً حين ترينه، تتقافزين على قدمكِ اليسرى وحدها، وأنتِ لا تفهمين لمَ لا يمكنكِ القفز على اليمنى!.. كثيراً ما تأملكِ في أسى، ثم احتضنكِ وهو يتحسر على حظكِ القليل في الدنيا...
حين مات لم تفهمي ما الموت، حتى حين كبرتِ لم تفهمي ما الموت، كل ما فهمتِ أنه لم يعد هنا، كل ما بقى منه اسمٌ منقوش على حجرٍ في منطقةٍ مخيفة يسمونها المقابر الخيرية، وبيتٌ هو غرفةٌ واحدة تسكنيها وأمكِ.. حتى يده السوداء أخذها معه..
بعد موته ظلت أمكِ تأخذكِ معها إلى السوق، تجلسكِ جوارها، لم يعد هناك أحدٌ يهتم بمسح مخاط أنفكِ الذي يسيل، لم يعد هناك من يذب الذباب عن وجهكِ الصغير، لم يعد هناك من يأخذكِ إلى حمام الجامع فجعلتيِ مكانكِ حمامك الخاص.. دوماً تنهرك أمكِ وهي تبعدكِ بسرعة عن الطماطم حتى لا تطولها رائحة إخراجكِ العفنة..
دعوتِ الله أن يأخذ – حتى – قدمكِ السليمة، ويعيد إليكِ أباكِ.. لكنه لم يأخذها، وأبوكِ لم يعد.

***
ولما بلغتِ من العمر عشراً، كنتِ قد بدأتِ تفهمين الدنيا، أدركتِ أنكِ لستِ سوى غزالةٍ عرجاء، لن تستطيع العدو هرباً من الأسود.. أتذكرين يوم جاء ضباط المرافق، فقلبوا لأمكِ الطماطم بأحذيتهم الميري، وقذفوا بها في وجهها، وهي تصرخ دفاعاً عنكِ وعنها؟ أتذكرين حين سبّها الضابط وعساكره ينتزعونها من مكانها بأذرعهم؟ أتذكرين صوت بكائكِ الذي دُفن بصرخاتها؟ أتذكرين الناس الذين نظروا إليكما ولم يدافعوا عنكما؟ أتذكرين نظرة اللامبالاة التي كانت في عيونهم؟ أتذكرين؟
دعوتِ الله يومها أن يأخذكِ كلكِ، ويعيد أباكِ.. لكنه لم يأخذكِ، وأبوكِ لم يعد.

***
فتاتي.. لمَ كنتِ تشاكسين البنات الخارجات من المدرسة التجارية؟ كانت أمكِ ترفض أن تدللي معها، فتفقدين أجمل ما فيكِ.. أرادتكِ كما أرادكِ أبوكِ.. كنتِ تخرجين معها إلى السوق، فتجولين هنا وهناك.. تزُكين على قدمكِ، تضايقين في البنات.. أكنتِ تغارين؟ أم تحسدين؟ حين ينتظر الواحدة منهن فتى بشاربٍ لم ينمُ كله بعد، وأنتِ لا ينتظركِ أحد؟.. كنتِ تنظرين لقمصانهن البيضاء، وتنوراتهن الكحلية، ثم تنظرين إلى جلبابكِ الوردي، المليء بالبقع والرقع.. تتأملين أقدامهن السليمة، ثم تتأملين قدمكِ اليمنى في حسرةٍ لا تزيدكِ إلا مشاكسةً فيهن.

***
كانت أمكِ تكابد الزمن، والكبر يضنيها.. وظلت تصر على رفضها لطلبكِ بأن تجلسي مكانها وتبيعي أنتِ الطماطم.. أتذكرين عم (جلال) جاركم؟.. كان رجلاً طيباً، يعمل موظفاً في مصلحة الشئون الاجتماعية، اعتبركِ كابنته.. كانت أمكِ ترجوه كلما أتى ليشتري منها الطماطم؛ أن يجد لكِ وظيفةً تحميكِ من الدنيا وأذاها.. كانت تزيد له في المكيال، وتمنحه بالخمس ثمرات مرةً واحدة فوق طلبه.. يتبسم وهو يعِدُها بأنه سيبذل ما في وسعه فتهلل وتدعو له كأنما قد عينكِ رئيسة الدواوين.

***
حقاً صدق الرجل وعده، وجلب لكِ وظيفةً في الوحدة الصحية بطفح الدم، بعدها مات وكنتِ تبكين في حرقةٍ.. ها قد مات أبوكِ من جديد...

***
مع أول شعاع شمسٍ يدخل من شباكِكِ الأخضر، فيهدهدكِ ويطقطق لكِ أصابعكِ مداعباً؛ تستيقظين.. منذ أعوامٍ كثيرةٍ لا تدرين لها عدداً وأنتِ تستيقظين مع هذا الشعاع، ربما استيقظتِ يوماً قبله فانتظرتِه، لكنك لم تستيقظي أبداً بعده..
قمتِ من سريركِ: متعثرة الخطى؛ بقدمكِ اليمنى المعوجة أسفلكِ، متعسرة الهضم؛ فقد طمس الفول على الفول.. انتهيتِ من حمامكِ البلدي الذي كان عسيراً، وانحنيتِ على الكنبة المجاورة لسريركِ الصغير تداعبين أمكِ بكلماتٍ ناعسةٍ، حتى أفاقت..
إلى ركن الغرفة رحتِ. ومن فوق الشماعة الخشبية البسيطة المعلق فوقها عدة جلابيب؛ اخترتِ جلباباً، وربطتيِ رأسكِ بالطرحة التي اشتريتِها من راتبكِ الأول..
أمام المرآة الصغيرة النصف مكسورة وقفتِ..
يا لجمالكِ!.. حقاً أنتِ جميلةٌ، بيضاء كالقشدة يحلف ببياضكِ كل نسوة الحارة، عودكِ فرنساوي كعود أمكِ.. أنتِ قمرٌ إذا تغاضينا عن هالةٍِ سوداء أو اثنتين أسفل عينيكِ.. أنتِ فاتنةٌ إذا تجاهلنا عرجكِ الشديد الذي لا تخطئه عينٌ إلا عمياء.. لكن أيتجاهل العرسان ذلك؟
أنتِ لا تخرجين من البيت إلا بحثاً عن واحد، ولا تدخلينه إلا لتسألي عن واحد، أجاء العريس يا أمَّا؟ ولمَ لم يأتِ بعد؟! هو أنا وحشة؟!
تنظر لكِ ولا تجيب...

***
تخرجين من البيت، فتجدينه.. كل يومٍ هو واقفٌ ينتظر.. لو كان غرضه شريفاً لطرتِ من الفرحة به.. لكنه حقير، وقح، كشعاع القمر يتلصص عليكِ وأنتِ نائمةٌ بالليل.. اسمه (فوزي)، يده سوداء تذكرك بيد أبيكِ، لكنها سوداء بسبب شحم السيارات التي يرقد تحتها يصلحها.. يعمل في ورشة الأسطى (حمدي) على أول الحارة، ويبدو أنه وضعكِ في عقله ولن يثنيه أحدٌ أو شيء..
كل يومٍ حين تخرجين ذاهبةً إلى عملكِ يكون هنا، واقفاً ينتظركِ وعيناه تلمعان بنظرة ذئبٍ وجد – أخيراً – خرافاً بلا راعي أو كلب.. يقترب منكِ ولسانه يتحدث بحسن الكلام وقبيحه معاً..
- ما كل هذا الجمال يا بنت؟! ستكونين فرساً في السرير.. ارضي عني وسأجعلكِ تأكلين لحماً كل يوم.. سأعطيكِ خمسين جنيهاً في الساعة الواحدة.. آه يا بنت.. ستكونين فرساً في السرير..
تتجاهلينه فقد اعتدتِ سفالته، لكنه اليوم يقترب وبشدة، بكفه يضرب صدركِ ويبعدها في سرعة، تستديرين وقد احتقن وجهكِ.. لقد حدث مالا تتوقعين.. تصرخين..
- والله لألمّ الخلق ليعطوكَ علقةً لن تنساها أيها الزبالة..
- أموت وتكوني في سريري وأنا فوقكِ!..
- تعال اطلبني من أمي إن كنت ترغبني..
لدهشتكِ يضحك.. تصرخين، ويضحك.. تصرخين، ويضحك.. والناس تنظر وتضحك، وكأن ضحكته بصوتٍ وصراخكِ أخرس.. تقولين لنفسكِ: إنهم لا يسمعون إلا الرجال!..

***
لا تعرفين كيف فلتِ من (فوزي) اليوم، ولا كيف تفلتين منه كل يوم.. المهم أنك تصلين إلى عملك في وحدة (رابع النجار) الصحية، تلك الوحدة التي تطل على السوق العمومي مباشرةً، تجلسين هناك فتسمعين أمكِ تزعق بسعر الطماطم متغنيةً بحَمَارها في فرشتها على مدخل السوق..
في الوحدة تشعرين براحةٍ كبيرة، فهي قريبةٌ من البيت، تجعلك تخالطين رجالاً كُثر، بل وتلفين على البيوت أيضاً مع (نوال) الممرضة الشابة، أحياناً يصاحبكما طفلٌ أو شابٌ، يطلقون على أنفسهم أسماءً لا تفهمين لها معنى: (كالكشافة) و(الجوالة).. وأحياناً أسماءٌ تفهمين منها أنهم يتبعون الحكومة أو الجمعيات الخيرية، لكنكما اليوم ستلفان وحدكما، كالمعتاد تناولكِ (نوال) حقيبةً زرقاء ثقيلةً قليلاً وتنطلقان..
آنستي.. لا تنكري استمتاعكِ بهذه الوظيفة، رغم عائدها القليل، ورغم مشقتها، إلا أنكِ مستمتعة.. ألستِ؟!.. لقد درتِ البلدة كلها، لم يبقَ إلا بضع مناطق تُعد على أصابع اليد، لكنها للأسف من اختصاص وحداتٍ أخرى.. لا يهم.. إن وظيفتكِ تمنحكِ ثقةً من الناس كبيرة، ألا ينظرون لكِ على أنكِ منقذة أطفالهم؟ بل وأحياناً ما يأتون فيسألونكِ عن مواعيدٍ وأشياء؟ كثيراً ما تجهلين الإجابة، لكنكِ ترسمين بحاجبيك الرفيعين علامة التذكر وتقولين:
- والنبي ما أنا فاكرة.. روحوا اسألوا في الوحدة وهناك سيخبرونكم..
من ألسنتهم ينهمر الشكر عليكِ كأنما أجبتِ الإجابة الوافية، فلا يزيدكِ إلا حباً في وظيفتكِ، وترحماً على عم (جلال)...

***
تبدأ رحلتكِ مع (نوال)، تطرقان الأبواب بحثاً عن أطفال لم يتعدَ عمرهم الخامسة..
بوطأة الوقت – وللوقت وطأة – أصبحتِ تحفظين البيوت التي تحوى أطفالاً، بل إنك تحفظين بعضاً من أسمائهم وأعمارهم كذلك..
حين تكتب (نوال) اسم الطفل في دفترٍ لا يبرح يديها، فإن أمتع لحظات حياتكِ تحين. تأمركِ بلهجةٍ سريعةٍ: قطرتان، أحياناً ثلاث، أو أربع.. وأنتِ تطيعين الأمر دون نقاش، فأنتِ في أمس الشوق إليه.. تتكئين على قدمكِ السليمة، لتحملي الطفل بين يديكِ – ويا سلام لو كان رضيعاً – وتبسملي عليه، وتحوقلي، ثم تفتحي فمه الصغير، وتقطري فيه عدد القطرات الذي حددته لكِ (نوال)، قبل أن تعيدي القطارة الصغيرة إلى أخواتها الكثيرات في العلبة الزرقاء..
حين تحملين الطفل؛ تطفو على يديكِ ووجهكِ كل مشاعر الأمومة الغارقة داخلكِ، فتحلمين بالطفل الذي سيناديكِ: (ماما).. ستسميه (جلال)، أو (أحمد) على اسم جدكِ، لا بل (إبراهيم) على اسم أبيكِ، رحمهم الله جميعاً.. لكن ماذا إن كان بنتاً؟ ربما سميتها (مروة) على اسم طبيبة الوحدة علها تصبح طبيبةً مثلها، أو (عيشة) على اسم أمكِ.. لكنكِ أبداً لن تسميها (نوال)..
ولم تكوني تطيعين (نوال) بالحرف الواحد، فحين تذهبين لتطعيم أطفال الخالة (أم الخير) الخاطبة؛ تستوصين بهم وتقطرين في أفواههم العدد الذي يخطر ببالكِ، حتى أنكِ في مرةٍ أنهيتِ قطارةً كاملة في فم الولد (إبراهيم)، أتذكرين الحساسية التي أصابته بعدها؟ لم يستطع أحدٌ أن يربط بين ما فعلتِه وما حدث، حتى أنتِ لم تستطيعي..
المهم أنكِ تفعلين ذلك وأنتِ تنظرين (لأم الخير) في مسكنةٍ واستعطاف، فتضحك الحيزبون وتقول:
- عقباكِ لما تطعمي أولادكِ..
ثم تضيف في خبثٍ:
- بأمر الله عريسكِ عندي يا بنت..
تتصنعين الخفر وتضحكين مغمغمةً:
- متى يا خالتي؟ متى؟
فتلكزكِ بمرفقها في كتفكِ وتقول:
- قريباً يا بنت.. قريباً..

***
وبالرغم من أنكِ في آخر مرةٍ ذهبتِ ليسننوكِ، فمنحوكِ ما يزيد عن الثلاثين بعام، لم تيأسي..
وكيف تيأسين وقد تزوجت قبلكِ (بديعة)؟!.. وأين (بديعة) الرفيعة كشعرةٍ من قوامكِ الممتلئ قليلاً المثير؟! وأين (بديعة) بشعرها القصير المجعد (المقمل) من شعركِ الأسود الطويل الذي تغسلينه بالجاز كل أسبوع؟! وأين (بديعة) السوداء كفحمة من بياضكِ النقي الذي لا يفرق عن اللبن في شيء؟! أين (بديعة) من كل هذا؟!.. لكنها تزوجت.. تزوجت رجلاً يحميها من شرور دنيا الرجال، أسداً يقيها عضات الذئاب.. تزوجت ظلاً يظلل عليها، وذكراً يشبعها.. لقد ملكتْ الدنيا.. لن يضايقها بذئٌ مثل (فوزي) أبداً إلا وقتله زوجها، لن يخوض الناس في سيرتها إلا والخوف يملؤهم أن يسمع زوجها، بالتأكيد يعطف عليها كأبيها، ويحن عليها، وتبكي على صدره تشكو له من كل الدنيا ولا تخاف.. رباه!.. لقد ملكت الدنيا.. ملكتها لأن قدميها سليمتان.. إن العرسان لن يرضوا بواحدةٍ عرجاء حتى لو كانت ست الحسن والجمال، ربما قبلوها لو كانت غنية، أو متعلمة، أو حتى صغيرةً في السن.. لكنكِ لستِ هذه أو تلك، ورغم ذلك لا تيأسين...

***
لم تفهمي لمَ يقتصر عملك على الأطفال فقط، ولم تفهمي أصلاً ما تلك القطرات التي تعطيها لهم، حتى لم تعي معنى كلمة (تطعيم) تلك..
ولم تسألي. وإن سألتِ سيسخرون منكِ ولن يجيبوا. وإن أجابوا لن تفهمي في الأغلب. وإن فهمتي فقولي على المرضى السلام؛ فكيف تفهمين ما تفهمه الحكيمات، والممرضات، والطبيبات؟ كيف تفهمين ما يفهموه وأنتِ لم تتعلمي في حياتك سوى الفاتحة؟ عذراً.. فإن للدنيا قوانينها..
لكنكِ لستِ غبية، فالفقر لا يعني الغباء، حتى الجهل لا يعني الغباء.. لقد فهمتِ، فهمتِ أن التطعيم هو تلك القطرات الموجودة في العلبة الزرقاء، وأن تلك القطرات هي أدويةٌ لأمراضٍ بعينها..
اليوم حين سألتِ (نوال) عن المرض الذي تحمون منه الأطفال قالت:
- نحميهم من العرج حتى لا يكونوا عُرجاً مثلك يا عرجاء!
لم تغضبي أو تتضايقي من كلماتها، فقد اعتدتِ جفاءها وكلماتها المدببة كالرصاص، بل على العكس فرحتِ.. ليس للكلمات، ولكن للحدث نفسه.. وفي خبثٍ تناولتِ قطارةً من العلبة الزرقاء، ورفعتِها إلى فمكِ لتفرغيها كلها فيه، سعلتِ قليلاً من مذاقها المرِّ، لكنه لم يفاجئكِ ألم تذوقيه مراراً؟.. ألستِ في كل مرةٍ تعرفين أن الدواء دواء آفتك؛ تتناولين منه قدر ما تستطيعين دون أن تلمحكِ (نوال)؟!!

***
تنهيان جولتكما، فتعودان إلى الوحدة من جديد، تسلمين العهدة – الحقيبة الزرقاء – ثم تمرين على أمكِ لتساعديها في حمل ما بقى في القصعة من طماطم لم تباع إلى بيتكما القريب...
الليل يحتل السماء، ويتوج القمر على عرشها، ولليل ظلمةٌ، لليل رهبةٌ، لليل صمتٌ، لليل شعورٌ يزحف على فقرات عنقكِ فترتعشين.. لكم تخشين الليل!.. لكم تكرهينه!..
تستلقين فوق سريركِ الصغير، تجاوركِ أمكِ على كنبتها، يقتحم ظلام الليل وصمته غرفتكما، يستوطناها، فيسوّد كل شيء، حتى الخيال!..
تقبعين على سريركِ لا تعرفين فيمَ تفكرين، حتى يتعالى شخير أمكِ المنهك، تستمعين إلى الألحان التي تصنعها بأنفها وفمها معاً، وتنسين نفسكِ لتغرقي في نومٍ عميق...
بعد ساعةٍ تشعرين بيدٍ خشنةٍ تتحسس فخذكِ من أسفل جلبابكِ المنزلي، تحسبينه حلماً، لكن تلك اليد تتحسس وجهكِ أيضاً.. لا.. هناك أكثر من واحدة.. هناك يدٌ فوق وجهكِ، وأخرى على رقبتكِ، وثالثةٌ على صدركِ، ورابعةٌ بين فخذيكِ...
أفقتِ.. هناك جلبةٌ، تحاول أن تكون خافتة، لكنها لأذنكِ مفضوحة.. فتحتِ عينيكِ، هناك أربعة، أربعة يلتفون حول جسدكِ كأنه وليمة.. هناك وجهٌ تعرفينه، إنه (فوزي).. من فمكِ تطلقين صرخةً مفزوعة، لكن (فوزي) يوأدها مكمماً فمكِ بيديه، أمكِ قامتْ تضرب فيهم بعصا المقشة الخشبية، دفعها أحدهم فاصطدمتْ بالحائط وسقطتْ، أنتِ تخمشين وجه (فوزي) بأظافركِ، تعضين يده القابضة على فمكِ، ترفصين بقدمكِ اليسرى في الوجوه والصدور، حتى قدمكِ اليمنى تكالبتْ عليكِ معهم، يحاولون تكتيفكِ، تقوم أمكِ من وقعتها، تضرب ظهر أحدهم بالمقشة، يلتفت إليها، يمسك منها المقشة ويشج بها رأسها.. زاغتْ عيناها والدماء تسيل على جبهتها وسقطتْ.. أطلقتِ صرخةً لم تخرج، وازدادت مقاومتكِ، تحاولين القيام من فوق السرير تدفعينهم في عنفٍ، بقبضته يضربكِ (فوزي) في عينكِ وأنفكِ، وبكفه يلطم خديكِ، فينقضون على جسدكِ الأبيض، يقطعون الجلباب، ينهشون من لحمكِ الطازج، ولا تملكين إلا الدموع..
مع صوت الفجر، ينتهي كل شيء، ويفرغ الأكلة من قصعتهم، ويسود صمتٌ قبيح، كأن العالم كله قد فني.. صمتٌ لا يقطعه إلا الأنين، ودقات قلبكِ المرتجف..

***
مع أول شعاعٍ دخل من شباككِ الأخضر، شعرتِ بالخوف منه، كيف تواجهين شمساً فعل بكِ قمرها ما فعل؟!.. أمكِ تقوم من سقطتها، تتحسس رأسها الذي شُج، تبكي وهي تراكِ راقدةً على ظهركِ، رجلاكِ متباعدتان، والدماء تغرق السرير، وآثار اللطم والضرب كالعرق فوق جسدكِ، تقوم فتحضر ملاءةً تستر عريكِ بها، وتقول من وراء دموعها:
- إياكِ أن يعرف أحدٌ بما حصل!.. إياكِ..
لم تتحدثي إلا بدموع، قبلتْ رأسكِ باكيةً، وقفت تنظر حولها في حطام الغرفة، لا تدري ما عليها فعله، لم تشعر بنفسها إلا وهي تمسك بقصعة الطماطم خارجةً، ودعتكِ بدموعٍ فلم تردي إلا بالمزيد منها..

***
حين أتوا لزيارتكِ، لأنك لم تعودي تذهبين للعمل؛ أخبرتهم أمكِ – من خلف الباب – أنك بعافيةٍ قليلاً، وأنها ستبلغكِ سلامهم.. كنتِ لازلتِ على رقدتكِ لم تضمي قدميكِ أو تحركي يديكِ، حتى دموعكِ ظلت تتدفق في الأخاديد الزرقاء المحيطة بعينيكِ، وترتجف فوق خديكِ المجروحين..
تقررين الخروج، فجأةً شعرتِ أن كل ما في الغرفة يخنقكِ، يجثم فوق صدركِِ، كأنها سجنٌ حبستِ فيه نفسكِ بيدكِ، ستخرجين، عدتِ أم لم تعودي، ستخرجين..
قمتي دون أن تغسلي وجهكِ، ارتديتِ جلباباً وطرحةً أسودين، خرجتِ إلى الشارع تنظرين حولكِ في ذعرٍ، لا تعرفين لمَ بدا لكِ أناس الشارع كلهم رجالاً، ولمَ بدوا كلهم يضحكون..
وأثناء سيركِ تمر عليكِ (أم الخير)، وحين تراكِ من بعيد تضحك في خبثٍ وتقول:
- قريباً يا بنت.. قريباً...






6 – 4 – 2010

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

هـــــــرتله

استيقظتُ في الصباح كما أستيقظ كل صباح، غسلت وجهي بالماء المليء برائحة الكلور، نفس الماء الذي صببته في المرحاض وخرج من فوهة الشطاف، ذهبت إلى غرفتي فتحت بابها كما أفتح كل باب، ارتديت قميصي دون إغلاق آخر أزراره، تجاهلت تمشيط شعري الأشعث على جانبيَّ رأسي، انتعلت حذائي المعقود رباطه كما يُعقد أي رباط، وخرجت...

تزاحم الناس في بقعةٍ بعينها كما يتزاحم أي ناس، أعرف وجوههم وأحفظها وجهاً وجهاً كما أعرف وأحفظ وجهي، سرتُ قليلاً نحوهم فصدم كتفي تبّاعٌ أسمر وجهه غارقٌ في بحرٍ من الرقع وعلامات المطاوي الحادة كما هو وجه أي تبّاع، ثم احتك (الميني باص) نفسه – الذي يطل منه صوت وجسد التباع – بذات الكتف وهو يسير بزاويةٍ معوجةٍ أمام ذلك الجمع المتعرق قبل أن يقف تماماً بعد موقفهم بأمتار..

التحمت في الجموع المتدافعة نحو باب (الميني باص) في همجيةٍ وغوغائيةٍ جاهلية كما تتدافع كل جموع على كل (ميني باص)، لم أشعر بقدميَّ تحملاني وإنما تحملني أيادٍ وأقدامٌ كما تحملني أيادٍ وأقدامٌ كل يوم، دلفت إلى (الميني باص) كما أدلف إلى كل (ميني باص)، وقفتُ في بوادر العرق ذي الرائحة النتنة والسخونة المرهقة، يدي اليسرى متشبثةٌ بتلك الماسورة الغليظة الممتدة بطول (الميني باص) كما تتشبث كل يوم..

أخرجت نصف جنيه من جيب القميص ومنحته للتبّاع كما أُخرجه وأمنحه كل يوم، فأخذه كما يأخذه كل يوم.. تناوبت عيناي في النظر إلى واجهات المحلات كما تتناوب كل عينين، تلك المحلات التي لازال معظمها مغلقاً في ذلك الوقت المبكر..

بقيت محطتان على محطة وصولي فقلت للتبّاع الأسمر – كما أقول له كل يوم – :

- باقي النص!؟

ردَّ علىًّ كما يرد كل يوم:

- مفيش فكة!
- انزل فك من أي محل.
- اشمعنى أنت اللي بتكلم ما كله دفع النص جنيه من سكات؟
- حقي يا أخي.
- مش عاجبك؟!.. يبقى سيبك من الميكروباصات واركب توكسة..

السخرية والشر لمعا في عيونه كما تلمع الشرارة في سلوك العواميد المقطوعة، فصمتُ كما أصمت كل يوم.. وصلتْ محطتي فنزلتُ وألقيتُ السلام على عم (دسوقي) البواب كما ألقيه كل يوم، هزّ رأسه كما يهزها كل يوم، وعيناه محمرتان من أثر الحشيش والسهر، صعدت في المصعد إلى الدور الثاني وصعد معي: (عادل)، و(نوال)، وعم (إبراهيم) الساعي كما يصعدون معي كل يوم، دخلنا إلى مبنانا كما ندخل كل مبنى، تركتهم وجلست على الكرسي البني خلف مكتبي البني كما أجلس على كل كرسي بني، بعد غير قليلٍ مرَّ علينا أستاذ (صلاح) رئيس المصلحة، قمنا له كما يقوم أي موظف لرئيس المصلحة، لم يعرنا اهتماماً ودخل مكتبه..

ناداني فدخلت..

- فين الشغل اللي طلبته منك امبارح؟!
- ما أنا خلصته يا أستاذ.. قدام حضرتك ع المكتب أهو..
- ناقص يا أفندي يا محترم.. مين علمك الشغل الزفت ده؟
- يا أستاذ أنا بقالي اتناشر سنة في الشغلانة دي و...
- أنت بتبجح كمان؟.. يا (محسن).. يا (محسن).. حوّل الأستاذ المحترم للشئون القانونية واخصم منه تلت أيام..

خرجت محني الكتفين، حانق الأنفاس، ومغمور المسام.. عدت لمكتبي.. الكثير من الملفات.. ناسٌ يروحون ويغدون، ناسٌ يسألون، وناسٌ مستفزون..

مرَّت ست ساعاتٍ كما تمر ست ساعاتٍ كل يوم، تلاحمت في جمعٍ جديد كما أتلاحم في كل جمع، جباهٌ كثيرةٌ كالجراد أعرفها لكني لا أحفظها، حملتني وجوهٌ وأكتافٌ وأيادٍ وأقدامٌ كما تحملني وجوهٌ وأكتافٌ وأيادٍ وأقدامٌ كل يوم، أخرجت النصف جنيه، لم أتشاجر مع التبّاع الأسود، بالكاد استطعت الوقوف كما أحاول كل يوم..

حين وصلت نزلت بصعوبة كما أُطحن عند كل نزول، دخلتُ بيتٍ بسيط، صعدت السلم كما أصعد أي سلم، لهثت، طرقت باباً بنياً كما أطرق كل باب، فتح لي حمايَّ كما يفتح أي حمي، دخلت بعد الترحيب، وضعوا لي الطعام كما يضعوه كل يوم، أكلت كما آكل كل طعام، تنحنحتُ فجاء الشاي الأسود الساخن، قلتُ:

- يا عمي هي (هدى) مش ناوية تعقل بقى وترجع بيتها وبيت عيالها؟
- والله يا بني أنا وأمها ريقنا نشف.. دي غلبتنا.. حتى العيال زنوا عليها بس هي رأسها صرمه قديمة.. أنا هندهالك وحاول ترضيها بكلمتين أنت الكبير العاقل برضه..

أومأت برأسي كما أومئ بها كل إيماءة، قام يناديها فجاءت ملتوية البوز، ممطوطة الشفتين، معقودة الحاجبين.. ربَّعت ذراعيها من خلف أكمام جلبابها المنزلي الأحمر الذي اشتريته لها يوماً...

قلت كما أقول في كل مرةٍ تلوي فيها بوزها:

- وآخرتها يا بنت الحلال؟! هنفضل كده لو مكنش عشان خاطري يبقى عشان خاطر عيالك..
- وعيالي مالهم؟ ما هم كويسين ومش ناقصهم حاجة الحمد لله..

تدخل أبوها كما يتدخل كل مرة:

- ناقصهم أبوهم طبعاً يا بنتي..
- لما أبوهم يعرف قيمتهم وقيمة أمهم يبقوا يرجعوله...

قلت وقد نفذ صبري كما ينفذ كل صبر:

- يعني مش ناوية تعقلي؟!

أجابت كما تجيب كل مرة:

- تؤ!

نزلت بوجهٍ وصلعةٍ حمراوين من كثرة الطعام الذي أكلته ومن شدة الغضب الذي شعرت به، عاركت جمعاً جديداً لا أعرف فيه أي وجه، لم أفكر في النصف جنيه، وصلت بيتي كما أصل كل يوم، ألقيت بنفسي على سريري، تطلعت إلى السقف قليلاً، ثم انقلبت على جانبي لأتطلع إلى نفسي في مرآة الدولاب الكبيرة: سوادٌ تحت العينين، وجهٌ منفوخ مترب، صدرٌ مترهل، وكرشٌ صغير يرتفع فوق الحزام فيمنع زر القميص الأخير من الانغلاق...

أتساءل: تُرى ماذا كان يحدث لي لو لم أكن أبذل كل ذلك المجهود؟!!

ثم أغط في نومٍ عميق وقد نسيت خلع حذائي....



11 مارس 2010

الاثنين، 15 مارس 2010

الجزمجي

قصتان قصيرتان جداً بنفس العنوان:


(1)


يقف تائه البصر، يحاول ألا ينظر لأسفل قدر إمكانه، ينتظر حيناً حتى ينتهي الرجل من تلميع حذائه، يستعد لعبور الطريق، حين تمر أمامه سيارة سوداء لامعة، يري فيها انعكاس الرجل وهو ينحني ليلمع حذاء زبون أخر، ويراه ينظر نحوه وهو في غاية السعادة، فيتمتم:


- لكم أحبك يا أبي!


ويكمل طريقه نحو الجامعة...


***


(2)


أعطاه حذاءه ليحيك له الرقعة رقم ألف فيه، انتظر قليلاً حتى انتهى الصبي الصغير من معاناة تصليحه، قبل أن يناوله إياه بابتسامة، نظر للصبي قليلاً وتأمل القذارة التي تغطيه، ربت على رأسه، أخرج من جيبه جنيهاً لكن الصبي ضحك فابتسم، حمل علبته الصغيرة واستعد لعبور الطريق، وقفت أمامه سيارة سوداء، رأي فيها انعكاس الصبي وهو ينظف حذاءاً آخر، وسمعه يقول:


- متنساش دوا أمًّا يا با..


التفت إليه وأومأ مبتسماً، ثم عاد إلى السيارة السوداء، مال على نافذتها وأخرج شيئاً من علبته وهو يقول:


- مناديل يا بيه؟!




21 سبتمبر 2009