الثلاثاء، 20 أبريل 2010

هـــــــرتله

استيقظتُ في الصباح كما أستيقظ كل صباح، غسلت وجهي بالماء المليء برائحة الكلور، نفس الماء الذي صببته في المرحاض وخرج من فوهة الشطاف، ذهبت إلى غرفتي فتحت بابها كما أفتح كل باب، ارتديت قميصي دون إغلاق آخر أزراره، تجاهلت تمشيط شعري الأشعث على جانبيَّ رأسي، انتعلت حذائي المعقود رباطه كما يُعقد أي رباط، وخرجت...

تزاحم الناس في بقعةٍ بعينها كما يتزاحم أي ناس، أعرف وجوههم وأحفظها وجهاً وجهاً كما أعرف وأحفظ وجهي، سرتُ قليلاً نحوهم فصدم كتفي تبّاعٌ أسمر وجهه غارقٌ في بحرٍ من الرقع وعلامات المطاوي الحادة كما هو وجه أي تبّاع، ثم احتك (الميني باص) نفسه – الذي يطل منه صوت وجسد التباع – بذات الكتف وهو يسير بزاويةٍ معوجةٍ أمام ذلك الجمع المتعرق قبل أن يقف تماماً بعد موقفهم بأمتار..

التحمت في الجموع المتدافعة نحو باب (الميني باص) في همجيةٍ وغوغائيةٍ جاهلية كما تتدافع كل جموع على كل (ميني باص)، لم أشعر بقدميَّ تحملاني وإنما تحملني أيادٍ وأقدامٌ كما تحملني أيادٍ وأقدامٌ كل يوم، دلفت إلى (الميني باص) كما أدلف إلى كل (ميني باص)، وقفتُ في بوادر العرق ذي الرائحة النتنة والسخونة المرهقة، يدي اليسرى متشبثةٌ بتلك الماسورة الغليظة الممتدة بطول (الميني باص) كما تتشبث كل يوم..

أخرجت نصف جنيه من جيب القميص ومنحته للتبّاع كما أُخرجه وأمنحه كل يوم، فأخذه كما يأخذه كل يوم.. تناوبت عيناي في النظر إلى واجهات المحلات كما تتناوب كل عينين، تلك المحلات التي لازال معظمها مغلقاً في ذلك الوقت المبكر..

بقيت محطتان على محطة وصولي فقلت للتبّاع الأسمر – كما أقول له كل يوم – :

- باقي النص!؟

ردَّ علىًّ كما يرد كل يوم:

- مفيش فكة!
- انزل فك من أي محل.
- اشمعنى أنت اللي بتكلم ما كله دفع النص جنيه من سكات؟
- حقي يا أخي.
- مش عاجبك؟!.. يبقى سيبك من الميكروباصات واركب توكسة..

السخرية والشر لمعا في عيونه كما تلمع الشرارة في سلوك العواميد المقطوعة، فصمتُ كما أصمت كل يوم.. وصلتْ محطتي فنزلتُ وألقيتُ السلام على عم (دسوقي) البواب كما ألقيه كل يوم، هزّ رأسه كما يهزها كل يوم، وعيناه محمرتان من أثر الحشيش والسهر، صعدت في المصعد إلى الدور الثاني وصعد معي: (عادل)، و(نوال)، وعم (إبراهيم) الساعي كما يصعدون معي كل يوم، دخلنا إلى مبنانا كما ندخل كل مبنى، تركتهم وجلست على الكرسي البني خلف مكتبي البني كما أجلس على كل كرسي بني، بعد غير قليلٍ مرَّ علينا أستاذ (صلاح) رئيس المصلحة، قمنا له كما يقوم أي موظف لرئيس المصلحة، لم يعرنا اهتماماً ودخل مكتبه..

ناداني فدخلت..

- فين الشغل اللي طلبته منك امبارح؟!
- ما أنا خلصته يا أستاذ.. قدام حضرتك ع المكتب أهو..
- ناقص يا أفندي يا محترم.. مين علمك الشغل الزفت ده؟
- يا أستاذ أنا بقالي اتناشر سنة في الشغلانة دي و...
- أنت بتبجح كمان؟.. يا (محسن).. يا (محسن).. حوّل الأستاذ المحترم للشئون القانونية واخصم منه تلت أيام..

خرجت محني الكتفين، حانق الأنفاس، ومغمور المسام.. عدت لمكتبي.. الكثير من الملفات.. ناسٌ يروحون ويغدون، ناسٌ يسألون، وناسٌ مستفزون..

مرَّت ست ساعاتٍ كما تمر ست ساعاتٍ كل يوم، تلاحمت في جمعٍ جديد كما أتلاحم في كل جمع، جباهٌ كثيرةٌ كالجراد أعرفها لكني لا أحفظها، حملتني وجوهٌ وأكتافٌ وأيادٍ وأقدامٌ كما تحملني وجوهٌ وأكتافٌ وأيادٍ وأقدامٌ كل يوم، أخرجت النصف جنيه، لم أتشاجر مع التبّاع الأسود، بالكاد استطعت الوقوف كما أحاول كل يوم..

حين وصلت نزلت بصعوبة كما أُطحن عند كل نزول، دخلتُ بيتٍ بسيط، صعدت السلم كما أصعد أي سلم، لهثت، طرقت باباً بنياً كما أطرق كل باب، فتح لي حمايَّ كما يفتح أي حمي، دخلت بعد الترحيب، وضعوا لي الطعام كما يضعوه كل يوم، أكلت كما آكل كل طعام، تنحنحتُ فجاء الشاي الأسود الساخن، قلتُ:

- يا عمي هي (هدى) مش ناوية تعقل بقى وترجع بيتها وبيت عيالها؟
- والله يا بني أنا وأمها ريقنا نشف.. دي غلبتنا.. حتى العيال زنوا عليها بس هي رأسها صرمه قديمة.. أنا هندهالك وحاول ترضيها بكلمتين أنت الكبير العاقل برضه..

أومأت برأسي كما أومئ بها كل إيماءة، قام يناديها فجاءت ملتوية البوز، ممطوطة الشفتين، معقودة الحاجبين.. ربَّعت ذراعيها من خلف أكمام جلبابها المنزلي الأحمر الذي اشتريته لها يوماً...

قلت كما أقول في كل مرةٍ تلوي فيها بوزها:

- وآخرتها يا بنت الحلال؟! هنفضل كده لو مكنش عشان خاطري يبقى عشان خاطر عيالك..
- وعيالي مالهم؟ ما هم كويسين ومش ناقصهم حاجة الحمد لله..

تدخل أبوها كما يتدخل كل مرة:

- ناقصهم أبوهم طبعاً يا بنتي..
- لما أبوهم يعرف قيمتهم وقيمة أمهم يبقوا يرجعوله...

قلت وقد نفذ صبري كما ينفذ كل صبر:

- يعني مش ناوية تعقلي؟!

أجابت كما تجيب كل مرة:

- تؤ!

نزلت بوجهٍ وصلعةٍ حمراوين من كثرة الطعام الذي أكلته ومن شدة الغضب الذي شعرت به، عاركت جمعاً جديداً لا أعرف فيه أي وجه، لم أفكر في النصف جنيه، وصلت بيتي كما أصل كل يوم، ألقيت بنفسي على سريري، تطلعت إلى السقف قليلاً، ثم انقلبت على جانبي لأتطلع إلى نفسي في مرآة الدولاب الكبيرة: سوادٌ تحت العينين، وجهٌ منفوخ مترب، صدرٌ مترهل، وكرشٌ صغير يرتفع فوق الحزام فيمنع زر القميص الأخير من الانغلاق...

أتساءل: تُرى ماذا كان يحدث لي لو لم أكن أبذل كل ذلك المجهود؟!!

ثم أغط في نومٍ عميق وقد نسيت خلع حذائي....



11 مارس 2010