الاثنين، 1 نوفمبر 2010

غربان المساء (العميان)

ولأن اليوم عيد ميلاد (زوبعة) الثاني؛ صار من الواجب أن أكافئها على احتمالها هذياني سنتين كاملتين. وقد قررت مكافأتها بشيءٍ صغير سيدهشها حتماً وربما يعجبها..

ابنتي العزيزة/ زوبعة.. قد كففت عن الاهتمام بكِ منذ زمنٍ ليس بقريب؛ فقط كي أحضر إليكِ حاملاً تلك الأقصوصة علّي بها أجدك وتجدينني من جديد بعدما تهنا سوياً في الناس.. في الخيال.. وفي زوبعة المجتمع!

الأقصوصة إهداءٌ إليكِ يا ابنتي الصغيرة ذات العامين.. وهي تحمل عناوين شتى في مخيلتي فساعديني على اختيار عنوان واهمسي به في أذني..

كم اشتقت إليكِ عزيزتي.. فدعيني في شغف الاشتياق أفرد إليكِ هذياناً جديداً، واعذري هذياني إن جعل عيد ميلادك تأبيناً!

غربان المساء (العميان)

{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }

الآية 52 - سورة البقرة

(ترنيمة لراحة الموتى) The Requiem

God save us every one,

Will we burn inside the fires of a thousand suns?

For the sins of our hands,

The sins of our tongues,

The sins of our fathers,

And the sins of our young.

Linkin Park

* يَهوه ، أدوناي = كلمتان تساويان لفظ الجلالة الله في اللغة العبرية.

** ابن عمرام = كلمة عبرية تعني ابن عمران بالعربية، وفي القصة تعني هارون عليه السلام.

***

بعد التيه؛ تيهٌ أكبر..

هل كنا نجونا فضعنا؟ أم مجرد عبرنا من ضياعٍ لآخر أكبر؟! أم أنه لا نجاة هنا من الأساس في هذا المكان الموحش المدعو حياة؟! وأي حياةٍ في تلك الصحاري المقبضة بهوائها القاتم المخنوق كأسراب غربان فقأت عين الأفق، وسدت رحم السماء، فلا تعد ترى منها شمساً ولا قمراً ولا سحباً، وإنما فقط ظلامٌ مخيف؟ كأن الهواء أصبح خليطاً من الرمال والغربان معاً!.. تشعر مع لمساته اللافحة بانقباضٍ داخل روحكَ؛ نفس الانقباض الذي تشعر به حين تسمع نعيق غراب.. وتستشعر بداخل فيكَ تلك الحبيبات الرملية الصغيرة التي يحملها، تصطدم بأسنانكَ وتحتكُ بسقف حلقكَ فتود أن تعطس لكنكَ لا تفلح فتسعل بشدة..

مع كل نفسٍ أسعل بشدة، لمَ أتنفس إذاً؟!

ولولا الهواء لنسيتُ أني أعيش ولحسبتُ أني فقط ميت أنتظر الحساب، لكني تائه، أكتشف فجأةً أني حي، وأحسب لأيام أني ميت..

أأنا حيٌ أم ميت؟! إن كان الموت مؤلم فالحياة أكثر ألماً، وإن كان الموت راحةً فلا راحة في الحياة.. لمَ نحيا إذاً؟! لمَ لم نمت من البداية؟! أم أن ما نحن فيه الآن ليس حياة وإنما هو موتٌ أصغر لكنا فقط لا ندرك ماهيته؟! إن كان موتٌ فهل كنا نحيا قبل أن نموت؟ وكيف سنموت ونحن أموات؟

والغربان تنعق فتصر على تذكيري بالموت.. بالقتل!

الأجواء من حولي خاملة فالنهار أوشك على الانتهاء، واستعدت الشمس للرحيل إلى مكانٍ آخر كي تحرق الأحياء فيه، فلتذهب إلى مصر فتحرقها وأهلها أجمعين!

برودة الليل تزحف على الرمال فتبللها بندً باردٍ، وتزحف على فقرات عنقي فأرتجف..

وهم حولي يستعدون لإشعال نيران المساء، ومن يشعل النيران التي تبدد المساء السرمدي داخلي؟

من أغصانٍ ميتةٍ لفظتها أشجارها؛ خلقوا شعلةً بهيةً بلون قرص الشمس الغارب فتتت الظلمات من حولنا قليلاً حتى أصبحنا نرى بعضنا.. كما أخرج ابن ظفر عِجْلاً ذهبياً كالشمس يخور من حفنة تراب.. وسجدوا.. الكثيرون سجدوا.. لكني لم أسجد، ولمَ لم أفعل؟ ماذا إن كان هذا العِجْلَ هو يَهوه* حقاً؟ أأكون الآن كافراً إذاً؟! لستُ أدري!

وهج النيران ينعكس على الوجوه الملتفة حول مصدرها، وغربان المساء تنعق، كأننا نجلس نبكي ألف قتيل!

يمكنني بسهولة معرفة ما يفكر فيه الجمع حولي، تُرى كيف ستكون غضبة ذي اليد البيضاء حين يعرف ما فعله القوم في غيابه؟

ربما أكثرنا قلقاً وترقباً أخوه؛ فقد أوصاه موسى بالحفاظ على جماعتنا، لكن الجماعة قد تفرقت قلوبها والنفوس، أتساءل ماذا يدور في عقلك يا ابن عمرام**!

الصمت يخيم علينا كأنما يخشى أحدنا النطق بأي شيء. قد أوشكت لياليك يا موسى على الانتهاء، وتعود لنا بعد لقاء أدوناي، لكن أحقاً ذهبت للقائه؟ أم أنه هو من يسجد له الآخرون؟ وإن كان موجوداً حقاً في السماء كما تقول؛ فلمَ لم تلقه هنا؟ ألسماء هنا غير السماء فوق الجبل هناك؟ أم أدوناي يسكن فوق الجبل؟! وكيف يسكن الإله؟ وإن كان يسكن فما يمنع أنه يأكل ويشرب ويتنفس ويخور؟ ما الذي يمنع أن يكون هو ذاك العجل الذي خرّ له الآخرون؟ وإن كان كذلك فما الذي سيحدث إن ذهبت فحطمته؟ أأكون ساعتها قد قتلتُ الإله؟!

***

الأنهر هي الأنهر، والليالي هي الليالي..

لا شيء يتغير في هذه الصحراء، كل شيءٍ مقيمٌ ساكن، يهيج فجأةً ثم يسكن كأن لم يكن، امتدادات هائلة مد البصر، رمالٌ لا يفرق بينها سوى انعكاس الشمس عليها..

لا يتغير هنا سوى الهواء: بالليل يهب برياح الصقيع، وبالنهار يلفح. ربما أيضاً تتغير الذئاب فتزيد واحداً في جحرٍ بعيد، وربما تنقص واحداً.. لكن الغربان تزداد دائماً، نعيقها يتعالى كنذير شؤمٍ بِشَرٍ قريب.. وصوتها بالنهار أخف حدةً من الليل، ففي الليل تفيض حناجرها بنعيقٍ كالنشيج، كأنها تترنم بابتهالاتٍ لا نفهم لها معنى.. والليلة يعلو عويلها، يشق الآذان شقاً.. والقلوب..

أرتجف وأرمق المرتجفين جواري، النيران تُدفئ أجسادنا، لكن ما الذي يُدفئ أرواحنا؟ تُرى ما حال القوم هناك؟ أترى عِجلهم قد سكّن أرواحهم المضطرمة؟ أتراهم وجدوا في عبادته راحة قلوبهم؟ لكن كيف يعبدون شيئاً هم من صنعوه ولو من أثر رسول؟ لكن لو كان يَهوه هو الإله الحق ألم يكن يعلم أنهم سيفعلون ذلك؟ لمَ أرسل لنا ذلك الرسول؟ أتراه يفتننا؟ أم أن الإله الحقيقي أراد أن يعبر عن وجوده ويخبرنا بأننا على خطأ؟ أينا الحق هم أم نحن؟ العجل أم يَهوه؟ لمَ لا أذهب فأسألهم؟ لكن ذلك مخيف، ربما انسقت وراءهم.. أو لعل ذلك يكون من حسن طالعي، سجدةٌ لهذا العجل لن تضر وأكون قد ذقت طعم هذا وطعم ذاك فأملك الاختيار السليم.. هو كذلك.. سأذهب..

هجرتُ القوم مستتراً بسواد الليل، ويممتُ وجهي شطر النيران البعيدة للآخرين، وبعد أن خطوتُ قليلاً ناحيتهم ولم يلحظني أحد لمحتُ شبحاً قادماً نحوي من جوار، ولم يلبث أن ظهرت ملامحه وقد رفع الشعلة التي في يده كي يتعرفني وأتعرفه، قال كلماتٍ لم أعِها فقد أفقدتني رهبة المفاجأة لساني، وعدت معه إلى حيث كنت منذ قليل..

حين وصلنا هلل القوم وأخذوا يتحدثون في آنٍ واحد، حتى هدأت قلوبهم وقد أفاضت بسرٍ ثقيل حوته لليالٍ طوال، فألقى موسى ألواحاً من يده فتحطمت، واقترب من أخيه وشده من لحيته وهو يلومه أشد اللوم، وكنتُ أنا لا أزال أرتجف...

***

لم تكن الحياة قد استيقظت بعد في هذه الصحاري حين لمعت رمالها بوهج نيرانٍ حمراء كأنها شمسٌ أخرى غير تلك التي بدأت تزحف نحو قبة السماء..

وقفتُ أرمق موسى وقد أحرق العجل بغضبٍ بينٍ، ثم ذراه في اليم، وقال لنا وقد اجتمع الفريقان معاً: - يا قومي إنكم قد ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل.

قال أحدنا: يا موسى، ما من توبةٍ؟

فأجاب: بلى... فاقتلوا أنفسكم ذلكم خيرٌ لكم عند بارئكم فتاب عليكم.

على الطائع منا أن يقتل العاصي، حتى إن كان العاصي ولده أو خليله أو أباه أو أخاه.. ولم نكُ لنجسر، فاستنجدنا بموسى، فُخفف عنا بظلمة، وحلت عقوبة الإله بضبابةٍ عاتيةٍ حطت كليلٍ بهيمٍ دائم يأتي من كل صوب، يُخفي الشمس خلف عباءته، ويخطف الأبصار، فأسرع الكل يتسلح بسيفٍ أو خنجرٍ أو سكين..

أمسكتُ سكيني والظلمة تقبض على كل شيء، حتى صرت كالأعمى، أتخبط وأتحسس أمامي بيدي، وسمعتُ أصوات شقٍِ وتقطيع، وآهاتٍ تعلو، وصليل سيوفٍ بعيدٍ لا يدوم، ورائحة دمٍ تغزو الأنوف..

أدور حول نفسي مترقباًً الطعنة في كل حين، لا أعرف من أين ستأتيني ولا مِن مَن.. أأنا طائعٌ أم عاصي؟ أعلىّ أن أقتل أم أنتظر القتل؟ تخبطت قدميّ في أطراف أجسادٍ مبتورةٍ، وتلمست يدي جسداً فأوغرت فيه سكيني فتأوه حتى سكن، ثم أخرجتها وأنا لازلت أدور حول نفسي، من أين ستأتي تلك الطعنة اللعينة؟ حتماً من خلفي، لكن أين خلفي؟ كل الاتجاهات سواء في هذه الظلمة.. أحتى في الموت أتيه؟

نعيق الغربان يأتي من بعيدٍ، يغلب صوت التقطيع، ويهزم آهات اللحم المتهرئ، ينتصر فوق كل شيء، إنه نعيق.. آه.. آه.. آ.....

1 نوفمبر 2010