
جلس (حيِّزَر) مهموماً يرشف من كوب الدم الساخن أمامه، يسمع أحاديث الجالسين جواره ملتفين حول البلورة، الكل متحمس بسبب تلك المباراة التي يخوضها جانب النجوم...
تجاهل ما يحدث، وأخذ يتطلع إلى ذبابة سقطت في كوبه، تأملها وهى تحاول أن تخرج من غرقها، تهز جناحيها في يأس، نظر إليها مشفقاً ولا يدري لمَ ذكرته بنفسه ليلة أمس...
حقاً حاول جاهداً، وضع كل تركيزه فيما يفعل، بذل كل ما في وسعه.. لكنه فشل... ويا لها من مرارة!.. ويا له من ألم!!.. لأول مرة يفشل بعد عشرة أعوام... عشرة أعوام ظل محلقاً فيها كنسر هصور...
خجل من نفسه كثيراً، لم يستطع أن يرفع عينيه في عيني زوجته، حقاً هى لم تكن قاسية عليه، لم تذله أو تحرجه، فقط ابتسمت له في رقة، ولم تنبس ببنت شفة، قبل أن تغط في نوم عميق...
أما هو فظل ساهراً يجافيه النوم، يتساءل عما أصابه.. أهو شيء أكله؟! أم هو مرهق من شدة العمل؟! أم هو حر الصيف؟! وهل سيستمر الوضع هكذا؟! أم هى (ليلة وهتعدي)؟!
على أنه كان يشعر في قرارة نفسه أن الأمر أكبر من كونه (ليلة وهتعدي)، فهو لن يجد في نفسه الشجاعة كي يحاول مرة أخرى.. أصبح يخشى الفشل.. وحقاً لو تجرع مرارته مرة أخرى، ربما دفعه هذا إلى الانتحار...
عاد إلى الواقع والذبابة التي تحاول أن تخرج، ساعدها بإصبعه في وجوم، وهو يتمتم لنفسه:
- ومين يساعدني أنا؟!
في نفس اللحظة كان الشوط الأول من المباراة انتهى، وبدأت فقرة إعلانية استعداداً للشوط الثاني، وصدح صوتٌ من البلورة يقول بلهجة حماسية:
" ميت مليون عيلة في جانب النجوم استخدموا (فركوع).. تخيلوا كام عيلة داقت طعم السعادة الزوجية.. مع أقراص (فركوع).. كل جانب النجوم.. هيقلع الهدوم"
انتهى الإعلان الذي لم يحتج (حيِّزَر) الكثير من الوقت ليدرك أنه موجه له تحديداً، سمع أصوات الملتفين حول البلورة تتعالى وأحدهم يقول:
- (فركوع) ده طلع شديد.. ده أنا خدت نص قرص امبارح و (فركعت) الولية...
ضحكاتهم تتعالى وصوت يقول:
- بكام العلبة يا أبو (زرنوخ)؟!
- الشريط تلت أقراص وبتسعة ناب بس!! يا بلاش!!
تعالت صيحاتهم المؤيدة لتخترق أذن (حيِّزَر) إلى عقله مباشرة، فلمعت عيناه في شدة وقد شعر أنه سيحلق من جديد....
***
وقف (حيِّزَر) أمام تلك اللافتة اللامعة وقرأ المكتوب عليها في سرعة: "أجزخارة (شرذمة) لصاحبها ومديرها/ شرذوم دنديس"، تردد قليلاً ثم حسم أموره ودلف إلى المكان...
تطلع إلى مصاص الدماء الذي يقرأ جريدة ما، ثم تنحنح فالتفت إليه مصاص الدماء وقال:
- أي خدمة؟!
شعر (حيِّزَر) بأمعائه تضطرب، وأحشائه تصطرع، واصفر وجهه في توتر فقال له (شرذوم):
- هى أول مرة؟!
نظر له (حيِّزَر) واجماً وردد في بلاهة:
- أول مرة إيه؟!
هز (شرذوم) كتفيه في استهتار وقال:
- أول مرة تاخد أقراص.. أنت مش جاي عشان كده؟!
في خجل هزَّ (حيِّزَر) رأسه مؤيداً فابتسم له (شرذوم) وأشار له أن يجلس، ثم انحني يحضر شيئاً من خزانة قريبة من الأرض، وحين قام وجد (حيِّزَر) مازال متوتراً يرتجف، فابتسم له مشفقاً وقال:
- ايه يا عم متقلقش، أنت مش أول واحد ياخدها ولا أخر واحد..
- بس أصلها أول مرة معرفش بعد عشر سنين...
- ياااااااه.. ده أنت كده فل قوي.. في ناس معمرتش غير يومين بالكتير...
- للدرجة دي؟!
- امال انت فاكر ايه؟ ده كل جانب النجوم زيك كده... انت فاكر انت لوحدك؟ لا أنا وأنت وكل الناس اللي ماشية بره.. ده حتى....
وقبل أن يقول أشار لـ(حيِّزَر) كي يقرب أذنه، وهمس له بكلمة ما، فاتسعت عينا (حيِّزَر) في ذهول، وقال:
- حتى (لـو...
- يخرب بيتك اسكت.. هتودينا في داهية...
- معلش معلش.. بس أصلي مش مصدق...
- تفتكر يعني هم صنعوا (فركوع) ده عشان مين؟! عشان سواد عيونك؟!
صمت (حيِّزَر) ولم يعلق، فناوله (شرذوم) شريط من الأقراص، أخذه منه (حيِّزَر) في لهفة وناوله التسعة أنياب وقام ليغادر المكان مسرعاً...
وما إن خرج حتى ضرب (شرذوم) جبهته بيده وقال:
- نسيت أقله مياخدش أكتر من نص قرص......
***
انطلق (حيِّزَر) يسير مسرعاً كأنما يعدو، على قدر توتره كانت فرحته، أخيراً سيحلق من جديد، شعور مهين حقاً أن تشعر أنك عاجز، عرج على مكان ما تتصاعد منه الأبخرة، اشترى لفة مليئة بأشياء تبدو شهية، ثم اتجه إلى بيته، صعد إلى كهفه، وجد امرأته تبتسم له كعادتها، لم يمهلها قال:
- العيال فين؟!
- نايمين.. ليه؟!
غمز لها بعينه وأشار إلى لفة الطعام الساخنة، فضحكت هى وقالت:
- عيب يا راجل احنا كبرنا على الكلام ده...
- لا كبرنا ولا حاجة.. ما انتي زي القمر اهو...
ابتسمت له وانهمكا يأكلان، ثم أشار لها (حيِّزَر) بعينه أن تسبقه إلى غرفة النوم فقامت، واتجه هو إلى الحوض وملأ كوباً من الماء، أخرج شريط (فركوع) الذي اشتراه...
نظر إليه بعينين لامعتين، أخرج قرصاً ووضعه في فمه ثم ابتلعه مع بعض الماء، وقف يرمق القرصين الباقيين متردداً، ثم حسم أموره وأخرجهما ليبتلعهما أيضاً......
***
شعر بالقوة، نفش صدره، وضع كوب الماء على منضدة المطبخ بشيءٍ من العنف، وصل إلى غرفة النوم، تأمل زوجته التي جلست أمام المرآة تضع على شفتيها أحمر شفاه، شعر بنبض قلبه يرتفع، عزا ذلك لانفعاله، اتجه نحو زوجته، جذبها من يدها بشيء من القوة، فضحكت وقالت:
- براحة يا راجل...
لم يضحك كان قلبه يخفق في شدة، اقترب منها ليقبلها لكن قدماه خانتاه وسقط على الأرض، نظرت له زوجته في حسرة وتمتمت:
- وعاملي فيها أبو زيد الهلالي.. يا أخويا بلا خيبة.. صديت نفسي الله يصد نفسك...
ثم بصوت عالٍ:
- ما تقوم يا راجل.. إنت عجزت ولا إيه؟!
أجابها الصمت المطبق، فأصابها القلق، انحنت تضع أذنها على قلب (حيِّزَر) في توتر، ولما جاوبها الصمت مرة ثانية، قامت مسرعة إلى الهاتف....
وبعد ساعتين وصل الإسعاف!!
***
جلس (حيِّزَر) في المستشفى ووعاء الأكسجين يغطي أنفه وفمه معاً، جاء الطبيب وقال له بابتسامة:
- احنا عملنالك غسيل معدة، أنت كنت واخد ايه؟!
لم يرد عليه (حيِّزَر) خوفاً من الفضيحة والحرج، فابتسم الطبيب وقال:
- تحب أشغلك البلورة تسليك؟!
أومأ (حيِّزَر) برأسه في خنوع فقام الطبيب وفتح البلورة، ثم غادر الحجرة...
كان هناك فاصل إعلامي على القناة، وصدح صوت من البلورة يقول:
- ميت مليون عيلة في جانب النجوم استخدموا (فركوع).. تخيلوا كام عيلة داقت طعم السعادة الزوجية...
تجاهل (حيِّزَر) باقي الإعلان وهو يصرخ:
- يا كدابيييييييين... تسعة وتسعين بس... تسعة وتسعين بس... تسعة وتسعين بس......
27 يونيو 2009