
الجمعة 9 يونيو 1967
وقفت ممتقع الوجه أراقب العلم الأزرق يرتفع على أرض سيناء، كبلت دموعي داخل عيني ومنعتها من النزول، وأنا أشاهد علم مصر يحتضن رمال سيناء، حاولت أن أتجه نحوه لأرفعه من فوق الأرض وأضعه فوق رأسي لكني كنت مكبلاً بالقيود، والعجز كان سيدي، انتبه إلىَّ ذلك الوغد الإسرائيلي فصفع وجهي دون كلمات، فنظرت أمامي في ذل، كنت أثق أنهم لن يتخلوا عنا في الوطن غير مدرك أنني قد شهدت حرب الأيام الستة كما قيل بعدها..
كان جسدي يشتعل ناراً، ليس بسبب الشمس التي تلفح وجهي، ولكنها مرارة الأسر...
لمحت العلم الأزرق يرفرف في السماء بطرف عيني وهم يقتادونني مع زملائي إلى سيارة ما ستحملنا إلى مكان ما لم أكن أعرفه وقتها، نظرت إلى علم مصر وأنا أركب سيارة الترحيل، وهمست له:
- سأعود....
وطار العلم في الهواء بعيداً....
***
الثلاثاء 18 مارس 1969
الجندي(إيزاك صموائيل) وقف مشعلاً سيجارته، أبداً لن أنسى وجهه، وهو يأخذ نفساً من السيجارة المشتعلة ثم يقربها من عورتي ويطفئها فيها، تصبب العرق على وجهي لكني كتمت صرخاتي كي لا أشبع متعته وساديته الحقيرة، نظر لي في غلٍ ثم أشعل السيجارة بقداحته من جديد، أخذ منها شهيقاً عميقاً ثم أطفأها في وجهي، أسقطت وجهي على رقبتي ألهث مدعياً فقدان الوعي، فأشعل هو السيجارة من جديد، واتجه إلى الراديو الموجود في يمين الحجرة وأشعله، كان موضوعاً على إذاعة الشرق الأوسط، سمعت المذيع يقول في حماس:
- إنه الاستنزاف يا مصريون.. إنه حق أبنائكم الأسرى.. إنه حق شهدائكم.. الطائرات المصرية المقاتلة تفتك بالعدو الصهيونـ...
قلب (إيزاك) المحطة في حنق، كأنما كان يفهم العربية، ثم وصل إلى محطة تتحدث بالعبرية ولمحت عيناه تتسعان ارتياعاً، قبل أن يحضر جهازاً ما، ويوصل طرفه بالكهرباء ويوصل أحد الأسلاك برأسي والأخر بعورتي، وأنا مازلت أدعي فقدان الوعي..
صفع وجهي مرتين ثم أحضر دلواً من الماء سكبه فوق وجهي، فاضطررت أن أرفع رأسي، ليطالعني وجهه الدميم يقول بعربية متلعثمة:
- هذا.. جزاء.. عدوان.. طيارين...
بدأت أحلل كلماته لكنه أشعل الجهاز الحقير فأشعل في جسدي ناراً ثائرة، وشعرت بصدري ينقبض وظهري يتقوس كأنما هو الموت...
أو أشد....
***
الخميس 5 أغسطس 1970
رأيت ضوء الشمس أخيراً بعد سجن طال، كنت واثنين من زملائي فقط من بقوا من طليعتنا والباقين قد قتلوا، إما في حرب الستة أيام أو من شدة التعذيب...
أخيراً أعادونا إلى وطننا الحبيب، ما إن عبرنا الحدود حتى تلقتنا القوات المصرية، لم ننتظر منهم تحيةً ولا نيشاناً بل قلنا جميعاً في صوت رجل واحد:
- متى القتال؟!
***
أحد أيام 1972
وقفت ككل يوم منذ عدت إلى مصر، أتأمل في المرآة تلك الوحمة في وجهي، أتذكر وجه (إيزاك) الدميم وهو يطفئ سيجارته في وجهي، ثم أغمض عيناي مقسماً ألا أنسى...
***
6 أكتوبر 1973
وقفت أترقب المهندسين وهم يفتحون الثغرة تلو الثغرة في ذلك الجبل الترابي اللعين، وأصابني انفعال شديد وأنا أسمع صرخات زملائي اللذين عبروا...
شممت رائحة الموت تفوح، لكن رائحة التضحية كانت أقوى منها بكثير..
أخيراً عبرت الخط واندفعت مع المندفعين نصرخ مكبرين، نطلق الرصاص هنا وهناك، نصرع هذا وذاك، نحرر الأرض، نرفع العلم، ننتقم....
في عز المعمعة وجدت (إيزاك) يضرب جندياً إسرائيليا يحاول أن يسبقه إلى ذلك المخبأ الذي لا يتسع إلا لشخص واحد...
تابعته بعيني حتى صرع زميله واختبأ داخل الحصن كالفأر، ثم زحفت على التراب مستتراً حتى وصلت إليه، بدأت أستعد للانقضاض عليه حين شعرت بأحد ورائي وبالموت قد دنا، فالتفت بأقصى سرعة لأجد إسرائيلياً يصوب مدفعه نحوي، ويطلق النار...
أغمضت عيني لكني لم أتألم وحين فتحتها رأيت جندياً من طليعتي قد تلقى الرصاصات بدلاً مني، وقفز فوق الإسرائيلي يطعنه، حتى أنهى حياته، ثم التفت لي مبتسماً رافعاً يديه علامة النصر... وفاضت روحه إلى بارئها..
التفت في غضب شديد نحو (إيزاك) وانقضضت عليه كأسد هصور، وما إن رآني حتى أصابه فزع رهيب، وأخذت أصفعه على وجهه الدميم قائلاً:
- قاتل كرجل.. قاتل.. قاتل كي أفجر رأسك...
لكنه فقد الوعي....
***
8 أكتوبر 1973
وقفت مبتسماً محيطاً جسدي بعلم مصر، وأنا أراقب هؤلاء الأسرى الإسرائيليين الجالسين فوق رمال سيناء، تلاقت عيناي مع عينيي (إيزاك) فأبعدهما في مرارة...
اقتربت منه وتأملت شفتيه الجافتين وقلت:
- ماء؟!
نظر لي في خنوع أن نعم، فأخرجت قربتي الصغيرة وأملتها نحو شفتيه فشرب حتى ارتوى، نظرت له في عزة قليلاً ثم قلت باعتداد:
- أهلاً بك في مصر...
***
19 مارس 1982
دمعت عيناي فرحةً، وأنا أشاهد العلم المصري في التليفزيون، وهو يرتفع ليرفرف على أرض طابا...
***
17 أغسطس 1990
شاهدت القوات المصرية تقتل وتُقتل على أرض الكويت والعراق، فارتجفت وأنا أتمتم:
- ليس هذا ما حاربنا لأجله!!
***
18 سبتمبر 2003
لم تكن العاصفة في صحراء العراق فقط، لكنها أيضاً كانت في قلبي...
***
5 يناير 2009
جرحى هنا وهناك، قتلى، قصف بربري، أطفال تموت، أمهات تصرخ، والكل يردد:
- أين جيوش العرب لتنقذ غزة؟!
قلت بيني وبين نفسي:
- أتراني ما زلت أقدر على القتال؟!
***
25 فبراير 2025
أقف فاتحاً فمي في بلاهة، وأنا أشاهد العلم الإسرائيلي الأزرق يرفرف في سماء القاهرة، أحفادي يبكون تحت أقدامي، وهم ينتظرون مصيراً بشعاً لأحلامهم، قلبي يخفق بقوة شديدة، وعيناي تهربان مني...
أسقط على الأرض محاولاً أن ألتقط أنفاسي دون جدوى، قلبي يتواثب كالمجنون، وأحفادي يلتفون حولي منادين باسمي في فزع..
لا أدري لمَ تذكرت وجه (إيزاك) الدميم؟!
ولا أدري لمَ بدا لي يبتسم؟!
27 مايو 2009