
ومرَّت تلك الفتاة علينا...
كنا جالسين في ذلك المقهى الذي لا يحمل اسماً، مقهى قديم كقدم صاحبه، صاحبه الذي خط الشيب صلعته وذقنه فمنحه احتراماً لا يستحقه في الواقع..
كنت جالساً أفكر في لعبة صعبة أضعها لصديقي (محمد عفشه)، وأنا ألاعبه (الدومينو)، أحياناً أنسى اسم أبوه الحقيقي، فقد طغى اسم مهنته على اسم أبيه طغياناً مبيناً، والحق أقول أن (محمد) لا يُشق له غبار في تصليح عفشات السيارات كأنما وُلد في واحدة منها!..
ابتسم وهو يرى على وجهي أمارات التفكير العميق، كأنما سرَّه هذا وأشعره بالزهو والسعادة، وأنه بارع في اللعبة فقد جعلني أقف مفكراً كالصنم..
ثم نادى على (علي) القهوجي وطلب منه كوبين من الشاي الأسود الثقيل وحجر معسل واحد، المعسل له بالطبع فأنا لم ولن أدخن في حياتي سوى السجائر!..
جاء (علي) ولما رأيته لا أدري لمَ تذكرت ذلك الممثل الضخم في فيلم (إسماعيل يس) عندما كان الأخير حانوتياً والأول هو مساعده وكانت جملته المشهورة: منبى يا معلمي منبى..
بالفعل (علي) يشبهه كثيراً فهو ضخم الجثة مثله، عقله كعقل الطفل الصغير، أخذ يضع أمامنا الشاي ويعدل من وضع حجر المعسل أمام (محمد) فداعبته قائلاً:
- ازيك يا واد يا (علي) مش ناوي تخس شوية؟
يضحك ضحكته المجاملة كأنما يخبرني أنه يحتملني فقط لأنني مصدر رزق له لا أكثر، وأنه لولا اضطراره لاحتمالي لطردني من المكان بصحبة عدة ركلات وبصقات ولا داعي لذكر السباب كذلك..
- هي هي.. لا مش ناوي يا (سيد) باشا..
شعرت بضيقه فلم أعلق، وسمعته يجيب نداء هؤلاء الشباب في الخلف ثم يقول بصوت عالٍ:
- تلاتة ينسون وتلاتة شيشة تفاح وصلحه...
سمع النداء ذلك الشاب الواقف خلف منضدة كبيرة عليها أكواب وأكياس من الشاي والسكر والبن والينسون و... إلخ، فقام على الفور بصب الماء المغلي في ثلاثة أكواب ووضع عليها عدة ملاعق من السكر قبل أن يضع على كل واحدة منها ملعقة من الينسون، ثم اتجه إلى خارج القهوة وأمسك بمروحة ورقية وأخذ يهوي فوق الجمرات الساخنة...
تعالت ضحكات الشباب بالخلف فالتفتُ إليهم، ورأيتهم يحملون مجلة صفراء من تلك المجلات المليئة بصور الفتيات الخليعة، وتذكرت شبابي وكيف كنت أجتمع أنا وأصدقائي فاعلين المثل بالضبط، لكني أتساءل عن حمق هؤلاء الشباب فالآن كل شيء متاح على الإنترنت وقنوات الدش، ما الذي يجبرهم على الصور إذاً؟!
مرَّ (علي) جواري حاملاً الشاي ومتجهاً نحوهم، فناديته وسألته عما دار بخاطري، فأجاب:
- متشغلش بالك يا (سيد) بيه.. ده هم شوية عيال صنايعية غلابة، ميعرفوش الحاجات اللي أنت بتقول عليها دي..
ثم تركني ومضى، فتأملت رقعة (الدومينو) أمامي مرة أخرى وأنا أرشف رشفة من كوب الشاي، ثم أخرجت سيجارة علَّ دخانها يساعدني على التفكير، ونظرت في ساعتي لأجدها الحادية عشرة مساءاً وقد اقترب منتصف الليل..
أعرف أن الوقت قد تأخر وأنه حان وقت العودة إلى المنزل، ففي الغد سأستيقظ باكراً كي أذهب إلى العمل، نظر لي (محمد) وقد لاحظ تشتتي وقال:
- إيه الدور الجملي ده؟!
ابتسمت ولم أرد فتابع:
- طب انجز يلَّا لحسن الولية مراتي هتقرفني لو تأخرت أكتر من كده.. الله يحرق أبو الجواز على اللي عايزين يتنيلوا يتجوزوا..
نظرت له متعجباً من حالي وحاله، فأنا كل يوم أتمنى لو كان لي زوجة تلومني على تأخري، وأُغضبها وتغضبني، ونضحك معاً، ونأكل معاً، ونعيش معاً...
مغني في الراديو يترنم بكلمات لا أدري كنهها، والدخان يملأ المكان فاندمجت معه لأغوص داخل ذكرياتي، تذكرت وفاة أبي وأمي، وكيف تركوني وحيداً بلا أخ أو قريب أو....
ما تلك النظرات التي تلمع في عيون كل الرجال في المقهى؟!
ألتفتُ حيث ينظرون فأرى القمر قد نزل من السماء وهبط على الأرض أمام مقهانا ليتهادى في مشيته مثيراً كل مشاعرنا!..
فتاةٌ رائعة الجمال ترتدي فستاناً وردياً تسير في تؤدة أمامنا وعطرها الأخاذ يداعب أنوفنا فيزكمها، تلقي نظرة نحونا بطرف عينها فترانا مبهوري الأنفاس فتضحك في رقة مسرورة بإعجابنا بها...
أخيراً نجحت في السيطرة على رقبتي ولوحتها لأتطلع إلى الرجال في المقهى.. لقد توقفوا عن الحياة تماماً!..
من كان يشرب شاياً وضعه أمام شفتيه دون أن يكمل شربه، ومن كان يدخن توقف عن التدخين، و(علي) كان حاملاً كوباً من الينسون ذاهباً به إلى أحدهم فتوقف في الطريق ليشاهد هذا المنظر الطبيعي، حتى (محمد) أمسك بالمبسم في يده ولم يحرك ساكناً وهو ينظر نحو تلك الفتاة..
واشترك الجميع – حتى صاحب القهوة العجوز – في تلك النظرات المجنونة الشهوانية، نظرات تخبرك بوضوح أن هؤلاء ليسوا رجالاً، إنهم حيوانات جائعة ولو أتيحت لهم الفرصة لانقضوا على تلك الفريسة وجعلوها عبرةً لمن لا تعتبر..
مرَّت تلك الفتاة علينا، لتخبرنا بحقيقتنا وإن لم تغير منها شيئاً...
تجاهلتُ ما حولي ورفعتُ جزءاً من أجزاء (الدومينو) إلى أعلى ثم أنزلته على رقعتها الخشبية فأحدث صوتاً مزعجاً أفاق له الجميع وسمعت ضحكاتهم تتعالى و(علي) يقول مذهولاً:
- منبى يا معلمي منبى!....
كنا جالسين في ذلك المقهى الذي لا يحمل اسماً، مقهى قديم كقدم صاحبه، صاحبه الذي خط الشيب صلعته وذقنه فمنحه احتراماً لا يستحقه في الواقع..
كنت جالساً أفكر في لعبة صعبة أضعها لصديقي (محمد عفشه)، وأنا ألاعبه (الدومينو)، أحياناً أنسى اسم أبوه الحقيقي، فقد طغى اسم مهنته على اسم أبيه طغياناً مبيناً، والحق أقول أن (محمد) لا يُشق له غبار في تصليح عفشات السيارات كأنما وُلد في واحدة منها!..
ابتسم وهو يرى على وجهي أمارات التفكير العميق، كأنما سرَّه هذا وأشعره بالزهو والسعادة، وأنه بارع في اللعبة فقد جعلني أقف مفكراً كالصنم..
ثم نادى على (علي) القهوجي وطلب منه كوبين من الشاي الأسود الثقيل وحجر معسل واحد، المعسل له بالطبع فأنا لم ولن أدخن في حياتي سوى السجائر!..
جاء (علي) ولما رأيته لا أدري لمَ تذكرت ذلك الممثل الضخم في فيلم (إسماعيل يس) عندما كان الأخير حانوتياً والأول هو مساعده وكانت جملته المشهورة: منبى يا معلمي منبى..
بالفعل (علي) يشبهه كثيراً فهو ضخم الجثة مثله، عقله كعقل الطفل الصغير، أخذ يضع أمامنا الشاي ويعدل من وضع حجر المعسل أمام (محمد) فداعبته قائلاً:
- ازيك يا واد يا (علي) مش ناوي تخس شوية؟
يضحك ضحكته المجاملة كأنما يخبرني أنه يحتملني فقط لأنني مصدر رزق له لا أكثر، وأنه لولا اضطراره لاحتمالي لطردني من المكان بصحبة عدة ركلات وبصقات ولا داعي لذكر السباب كذلك..
- هي هي.. لا مش ناوي يا (سيد) باشا..
شعرت بضيقه فلم أعلق، وسمعته يجيب نداء هؤلاء الشباب في الخلف ثم يقول بصوت عالٍ:
- تلاتة ينسون وتلاتة شيشة تفاح وصلحه...
سمع النداء ذلك الشاب الواقف خلف منضدة كبيرة عليها أكواب وأكياس من الشاي والسكر والبن والينسون و... إلخ، فقام على الفور بصب الماء المغلي في ثلاثة أكواب ووضع عليها عدة ملاعق من السكر قبل أن يضع على كل واحدة منها ملعقة من الينسون، ثم اتجه إلى خارج القهوة وأمسك بمروحة ورقية وأخذ يهوي فوق الجمرات الساخنة...
تعالت ضحكات الشباب بالخلف فالتفتُ إليهم، ورأيتهم يحملون مجلة صفراء من تلك المجلات المليئة بصور الفتيات الخليعة، وتذكرت شبابي وكيف كنت أجتمع أنا وأصدقائي فاعلين المثل بالضبط، لكني أتساءل عن حمق هؤلاء الشباب فالآن كل شيء متاح على الإنترنت وقنوات الدش، ما الذي يجبرهم على الصور إذاً؟!
مرَّ (علي) جواري حاملاً الشاي ومتجهاً نحوهم، فناديته وسألته عما دار بخاطري، فأجاب:
- متشغلش بالك يا (سيد) بيه.. ده هم شوية عيال صنايعية غلابة، ميعرفوش الحاجات اللي أنت بتقول عليها دي..
ثم تركني ومضى، فتأملت رقعة (الدومينو) أمامي مرة أخرى وأنا أرشف رشفة من كوب الشاي، ثم أخرجت سيجارة علَّ دخانها يساعدني على التفكير، ونظرت في ساعتي لأجدها الحادية عشرة مساءاً وقد اقترب منتصف الليل..
أعرف أن الوقت قد تأخر وأنه حان وقت العودة إلى المنزل، ففي الغد سأستيقظ باكراً كي أذهب إلى العمل، نظر لي (محمد) وقد لاحظ تشتتي وقال:
- إيه الدور الجملي ده؟!
ابتسمت ولم أرد فتابع:
- طب انجز يلَّا لحسن الولية مراتي هتقرفني لو تأخرت أكتر من كده.. الله يحرق أبو الجواز على اللي عايزين يتنيلوا يتجوزوا..
نظرت له متعجباً من حالي وحاله، فأنا كل يوم أتمنى لو كان لي زوجة تلومني على تأخري، وأُغضبها وتغضبني، ونضحك معاً، ونأكل معاً، ونعيش معاً...
مغني في الراديو يترنم بكلمات لا أدري كنهها، والدخان يملأ المكان فاندمجت معه لأغوص داخل ذكرياتي، تذكرت وفاة أبي وأمي، وكيف تركوني وحيداً بلا أخ أو قريب أو....
ما تلك النظرات التي تلمع في عيون كل الرجال في المقهى؟!
ألتفتُ حيث ينظرون فأرى القمر قد نزل من السماء وهبط على الأرض أمام مقهانا ليتهادى في مشيته مثيراً كل مشاعرنا!..
فتاةٌ رائعة الجمال ترتدي فستاناً وردياً تسير في تؤدة أمامنا وعطرها الأخاذ يداعب أنوفنا فيزكمها، تلقي نظرة نحونا بطرف عينها فترانا مبهوري الأنفاس فتضحك في رقة مسرورة بإعجابنا بها...
أخيراً نجحت في السيطرة على رقبتي ولوحتها لأتطلع إلى الرجال في المقهى.. لقد توقفوا عن الحياة تماماً!..
من كان يشرب شاياً وضعه أمام شفتيه دون أن يكمل شربه، ومن كان يدخن توقف عن التدخين، و(علي) كان حاملاً كوباً من الينسون ذاهباً به إلى أحدهم فتوقف في الطريق ليشاهد هذا المنظر الطبيعي، حتى (محمد) أمسك بالمبسم في يده ولم يحرك ساكناً وهو ينظر نحو تلك الفتاة..
واشترك الجميع – حتى صاحب القهوة العجوز – في تلك النظرات المجنونة الشهوانية، نظرات تخبرك بوضوح أن هؤلاء ليسوا رجالاً، إنهم حيوانات جائعة ولو أتيحت لهم الفرصة لانقضوا على تلك الفريسة وجعلوها عبرةً لمن لا تعتبر..
مرَّت تلك الفتاة علينا، لتخبرنا بحقيقتنا وإن لم تغير منها شيئاً...
تجاهلتُ ما حولي ورفعتُ جزءاً من أجزاء (الدومينو) إلى أعلى ثم أنزلته على رقعتها الخشبية فأحدث صوتاً مزعجاً أفاق له الجميع وسمعت ضحكاتهم تتعالى و(علي) يقول مذهولاً:
- منبى يا معلمي منبى!....
13 مارس 2009
هناك تعليقان (2):
جامده جدا
انا مش حاسها قصه
دى مشهد سينما
وفكرتنى باغنيه كاظم الساهر كل ماتكبر تحلا
ههههههههه
ميرسي يا يويو ده بس من ذوقك :)
بس اشمعنى كاظم يعني :))
منورة يا أية ^_^
إرسال تعليق